المعروف أن الأحاديث التي جاءت تعلن أن أول ما خلق كذا أو كذا .. إلخ لم يصح منها حديث واحد كما قرر علماء السنة، ولذلك نجد بعضها يناقض بعضًا، فحديث يقول: إن أول ما خلق الله القلم … وحديث ثان: أول ما خلق الله العقل .. وشاع بين العامة مما يتلى عليهم من قصص الموالد المعروفة أن الله قبض قبضة من نوره، وقال لها: كوني محمدًا، فكانت أول ما خلق الله، ومنها خلق السموات والأرض … إلخ. ومن هذا شاع قولهم: “الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله” حتى ألصقها بعضهم بالأذان الشرعي كأنها جزء منه.
وهذا كلام لم يصح به نقل ولا يقره عقل، ولا ينتصر به دين، ولا تنهض به دنيا، فأوليته عليه السلام لخلق الله لم تثبت، ولو ثبتت ما كان لها أثر في أفضليته عليه الصلاة والسلام ومكانه عند الله، وحينما مدحه الله تعالى في كتابه مدحه بمناط الفضل الحقيقي فقال: {وإنك لعلي خلق عظيم} (سورة القلم: 4)
والثابت بالتواتر أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي المولود من أبويه عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب بمكة في عام الفيل، ولد كما يولد البشر، ونشأ كما ينشأ البشر، وبعث كما يبعث من قبله أنبياء ومرسلون، فلم يكن بدعًا من الرسل، وعاش ما عاش ثم اختاره الله إليه {إنك ميت وإنهم ميتون} (سورة الزمر: 30)، وسيُسأل يوم القيامة كما يُسأل المرسلون: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}. (سورة المائدة: 109)
ولقد أكد القرآن بشرية محمد عليه السلام في غير موضع، وأمره الله أن يبلغ ذلك للناس في أكثر من سورة: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (سورة الكهف: 110)، {قل سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً} (سورة الإسراء: 93)، فهو بشر مثل سائر الناس لا يمتاز إلا بالوحي والرسالة.
وأكد النبي عليه الصلاة والسلام معنى بشريته وعبوديته لله، وحذر من اتباع سنن من قبلنا من أهل الأديان في التقديس والإطراء: ” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله . (رواه البخاري). وإذا كان النبي العظيم بشرًا كالبشر، فليس مخلوقًا من نور، ولا من ذهب، وإنما خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، هذا من حيث المادة التي خلق منها محمد عليه الصلاة والسلام.
أما من حيث رسالته وهدايته فهو نور من الله، وسراج وهاج، أعلن ذلك القرآن فقال يخاطبه: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} (سورة الأحزاب: 46)، وقال يخاطب أهل الكتاب: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (سورة المائدة: 15) فالنور في الآية هو رسول الله، كما أن القرآن الذي أنزل عليه نور. قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} (التغابن 8)، {وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا} (النساء: 174)، وقد حدد الله وظيفته بقوله: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}. (إبراهيم: 1).
وقد كان دعاؤه عليه السلام: “اللهم اجعل لي في قلبي نورًا وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا وفي لحمي نورًا وفي عظمي نورًا وفي شعري نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا … ومن بين يدي ومن خلفي ..” . الحديث (متفق عليه من حديث ابن عباس) فهو نبي النور ورسول الهداية. جعلنا من المهتدين بنوره المتبعين لسنته، آمين.
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي