“ما الذي نراه الآن في مجتمعنا أيها السادة: في الشارع، في المدرسة، في الجامعة، في الأندية، في البيوت، وحتى في وسائل الإعلام؟ غابت الألفاظ الراقية والحوار الراقي والمعاملة الرقيقة ليحل محلها حوار متدن، وألفاظ سوقية، ومعاملات خشنة، كذب، نفاق، مناورات، خديعة، حتى في أكثر العلاقات خصوصية، رشوة.. فساد”.. هكذا عبر أحد المعلمين(1) عن جوهر الأزمة التي نعانيها.. إنها أزمة أخلاقية بالأساس؛ فعلى الرغم مما نراه من اتساع حالة التدين في المجتمع بوجه عام وما يصاحبها من مظاهر؛ فإننا على الوجه المقابل نرى هذه الحالة من تدني البناء الأخلاقي في علاقات التعامل فيما بين الناس بعضهم البعض والذي ينم عن حالة من تدني التقوى “الاجتماعية” في نفوس الناس. فكيف يكون نموذج البناء الأخلاقي؟

فإذا كان هذا هو التشخيص الذي نعرفه ونتقنه جميعا وتلوكه ألسنتنا في كل مجالسنا؛ فما هو العلاج الذي لا نكلف أنفسنا كثيرا بالبحث عنه وإعماله في أرض الواقع؟

في السطور التالية أستعرض بشكل موجز قصة تجربة حاولت العلاج في زمن سابق من القرن العشرين، ثم أعلق عليها بنظرات لأحد فلاسفة التربية لأصل به ما بدأت الكلام فيه.

سويسريان وإسكندري

التجربة في موضوع نموذج البناء الأخلاقي هي تجربة “واحة الصبيان” التي جرت على أرض الإسكندرية في الفترة من عام 1949 إلى عام 1958، وأبطالها هم:

أولا- أحد الأعيان السويسريين وزوجته، بنيا ناديا اجتماعيا “ليلم شعث الصبيان فيما وراء منطقتي فلمنج وبولكلي، من أحياء صناعية مزدحمة؛ كزعربانة، والظاهرية، والمنشية الجديدة، وعزبة الصفيح، والعقصة، والحمام، وغيرها؛ لتنظيم أوقات فراغهم في الإجازات، وبعد خروجهم من مدارسهم وأعمالهم عصر كل يوم؛ فتبعدهم عن لهو الشارع الخطر، وتوجههم إلى حياة أخلاقية عملية تشكل منهم جيلا من المواطنين الصالحين”.

ثانيا- بطلها الآخر الأستاذ السعيد عاشور -الاختصاصي الاجتماعي الذي انتدبته وزارة الشئون الاجتماعية للإشراف على هذا النادي، الذي كان كما سجل في كتابه الذي وثق به تلك التجربة(2)- قد تعرف وقتها على مبدأ جديد في الحياة؛ هو “التسلح الخلقي” واستخارة الله في كل شئون الحياة. وخلال جولة استكشافية له بالمنطقة التي يقع فيها النادي تعرف على صبيين، تصادق معهما بعد أن لعب معهما “الكرة الشراب”، وكانا متسربين من مدرستهما، واتفق معهما على اللعب سويا في الغد بعد انصرافهما من الدراسة، لكنه فوجئ بأن الصبيين صارا عشرين صبيا، فنظم لهم دورة في الكرة في أحد الشوارع الهادئة.

وشيئا فشيئا وبمرور الأيام استطاع الاقتراب من الأولاد والتصادق معهم، والتعرف عليهم بصورة أوثق، وصار لعبهم ينتقل من شارع إلى آخر، ويقترب بهم شيئا فشيئا من مقر النادي حتى جاوروه، ثم ما لبث أن اجتذبهم إلى فكرة اللعب بداخله، وكان لا يزال تحت الإنشاء؛ فما إن انتهى حتى وجه إليهم دعوات لافتتاحه، وكانوا قد صاروا خمسا وعشرين، ومع اللعب والأنشطة الرياضية استطاع الأستاذ السعيد أن يغير من أخلاقهم وسلوكياتهم.

الأعمال المُنهضة!!

يحكي السعيد في كتابه كيف استطاع إحداث هذا التحول: “في هذه التجربة نجح الصبيان في أن يكونوا أخلاقيين في السر والعلانية؛ لأنهم أُفهموا كيف أن المجتمع فيه كثير من الكراهية والخيانة، وأن عليهم إن أرادوا خلق مجتمع أمين جديد أن يكافحوا في سبيل ذلك، بادئين بأنفسهم، وقد وجدنا أن خير سبيل لذلك هو الاسترشاد بالله ليرينا في وقت السكون والهدوء الذي نبدأ به نشاطنا بعد الصلاة أين يريد أن يوقعنا الشيطان، وما هي الأعمال المنهضة التي يريدنا الله أن نعملها في يومنا لنرقى في سلم الحياة اليومية السعيدة الذي رأيناه كما يلي:

    شكر الله على ما منحنا من نعم لم نكن نتوقعها.

    شكر الناس الذين أدوا لنا معروفا في يومنا.

    الاعتذار عما وقعنا فيه من خطأ نحو الآخرين.

    إصلاح العادات السيئة فينا واستبدال أخرى طيبة بها.

    التفكير في مشاكل الآخرين ومساعدتهم.

    الدعاء للمرضى والمساكين وزيارتهم”.

وبهذا أصبح “اتق الله حيثما كنت” شعارا عمليا لهؤلاء الصبيان، واقتداء بما كان يفعله الصوفيون الأوائل “شارط نفسك إذا أصبحت، وراقبها إذا أضحيت، وحاسبها إذا أمسيت”.

ثم يحكي كيف كان يختلي بنفسه كل يوم تحت الشجرة في “وقت للسكون” يشارط نفسه ويحاسبها، ويوما بعد يوم لفت أنظار الصبيان، فبدءوا يتجمعون حوله كالعصافير واحدا بعد الآخر؛ ليرقبوا ما يفعل، ثم ما لبث أحدهم أن سأله فأخبره، فأحب أن يجرب ذلك. وكما يعبر: “وكانت أولى خطواتهم في الأيام التالية أن وجدوا الشجاعة ليعتذروا عن أخطائهم اليومية إلى ذويهم وزملائهم، ويحاولوا جهدهم ألا يعودوا إليها لتكون توبتهم كاملة.. وبهذه الطريقة تخلص الكثيرون منهم من عيوب مشهورة، كالكذب والسرقة والغش والإهمال، ثم كانت الخطوة التالية عندما بدءوا الكفاح للمساهمة في تغيير غيرهم كذلك؛ فإن اختلفوا على شيء لم يكن همهم الشكوى، بل أن يردوه إلى الحق ليحكم بينهم، وليريهم الله أين الصواب، لا أين المصيب أو المخطئ”.

ويمضي الأستاذ السعيد بعد ذلك في كتابه يحكي قصصا حقيقية عن تحولات حقيقية حدثت في حياة هؤلاء الصبيان وأخلاقهم الاجتماعية وضمائرهم، وصاروا بها أناسا آخرين، صالحين ومصلحين.

فإذا كانت تلك التجربة وهي في النهاية تجربة فرد واحد في مؤسسة واحدة قد أحدثت كل هذا التأثير -الذي حكاه في كتابه والذي ألمحنا إليه موجزا- في مجتمعه المحلي المحيط؛ فإن الأمر يدعونا للتساؤل:

أليست هذه مسئولية كل مؤسسات التربية في المجتمع؛ بداية من البيت، مرورا بالمسجد والنادي، ومركز الشباب، والجمعية، وانتهاءً بالمدرسة؟ وتستطيع تلك المؤسسات إذا استهدفت إحداث هذا التحول “الأخلاقي الاجتماعي” أن تحدث انقلابا، لا.. بل ثورة في الأخلاق الاجتماعية للناس.

ولكن هل المطلوب فقط هو مجرد الترقيع في منظومة الأخلاق، واستبدال خلق سليم بآخر تالف، أم أننا في حاجة لكي نحدث تلك الثورة في الأخلاق الاجتماعية وأن نرى مجمل البيئة الاجتماعية المحيطة بنا، وما حدث فيها من تحولات عظمت من مصيبة الانحطاط الأخلاقي الذي نعيشه، وأن علينا أن نستهدف تلك المنظومة بالوعي والرؤية النقدية التي تجعلنا قادرين على تغيير الواقع وبناء منظومة أخلاقية أكثر إنسانية؟.

في محاولة للإجابة على تلك الأسئلة نقتطف بعضا من أفكار باولو فريري أحد أهم فلاسفة التربية في القرن العشرين في كتابه المترجم إلى العربية “تربية الحرية “(3):

أولا- يضع فريري ما نعانيه من انحطاط أخلاقي في إطار منظومة أسماها “أخلاق السوق”، يقول: “بالنظر إلى أية دولة على ظهر الكرة الأرضية نجد أنها أصيبت أكثر وأكثر بأخلاق السوق”.. وإذا كانت الأسواق كما نعرف من حديث الرسول هي “شر بقاع الأرض” فكيف بنا إذا تحول المجتمع كله إلى سوق؟!

وفي السوق كل شيء يباع ويشترى.. “كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”. وفي السوق: السيد هو منطق الربح، والربح وقوده الطمع والحسد (كما عبر إرنست شوماخر في كتابه “الصغير جميل”)، وإذا امتلأت النفوس طمعا وحسدا عاثت في الأرض فسادا، وكان منطقها فردانيا وأنانيا.. “أنا ومن بعدي الطوفان”.

وفي السوق تبتلع الحيتان الكبيرة الأسماك الصغيرة، ويصير كما يعبر فريري “الضعيف ومن لا مدافع عنه في حكم المدمَّر”.

ثانيا- في مقابل “أخلاق السوق” يتحدث فريري كثيرا عما أسماه “أخلاق إنسانية عالمية”، التي تعني “أخلاق الأحرار” التي تضاد “أخلاق العبيد” التي تسود في ظل “ديانة السوق” (كما يعبر روجيه جارودي في الكثير من كتاباته)، أخلاق الأحرار تلك تسعى إلى تكوين “مدينة إنسانية فاضلة داعية للتضامن الإنساني”، إنها أخلاق مبناها أن “أفضل طريقة للنضال من أجل الأخلاق هو أن نحياها في عملنا التربوي”، والذي يراه فريري “مزيجا من التشكيل المهني والتشكيل الأخلاقي”.

ثالثا- “أنه أيا ما نقوم به للارتقاء بأخلاق إنسانية عالمية ما هو إلا جهد ضئيل مقارنة بالحاجة إلى ما يجب القيام به”، وأن هذا الارتقاء بالأخلاق يتطلب قدرا عاليا من “الشجاعة المدنية” التي اعتبرها “من سمات الوعي بوجودنا في هذا العالم، ووجودنا مع العالم ومع الآخرين”. وتنبع تلك الشجاعة المدنية أو “عناد الشجاعة من الغضب من الواقع -واقع أخلاق السوق وما تؤدي إليه- ومن التمرد عليه، ومن الأمل الإنساني المؤدي إلى أن وجود المرء في العالم هو من معطيات فعل الإنسان التاريخي، وليست معطيات مبرمجة محددة بشكل مسبق. فالوجود في العالم دون صنع التاريخ، ودون صنعه لهذا الوجود وجود مستحيل تماما، والدور الفاعل للإنسان في مسيرته التاريخية هو السعي من خلال الشجاعة المدنية والمخاطرة لصنع حياة أفضل”.

رابعا- يؤكد على محورية “الأمل” بجانب “العمل” في التغيير الأخلاقي الجذري الذي ننشده، فـ”طالما هناك عمل.. فهناك أمل”، فـ”إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، وكما يعبر فريري: “من المهم أن يصير العالم أمامنا حلما يستحق النضال من أجله، نضالا من أجل تغيير جذري للأشياء، وهي في طريقها إلينا أكثر مما ننتظر ببساطة وصولها؛ لأن هناك من قال إنها ستصل إلينا بالضرورة يوما ما”.

أما وقد وصلت -السوق وأخلاقها- إلينا بالفعل؛ فليس أمام الإنسان إلا العمل على تغيير الواقع الاجتماعي والأخلاقي الذي نعاني منه؛ فبهذا يكون الإنسان كما خلقه الله وأراده الإسلام: “صانعا لتاريخه أكثر مما هو صنيعة له”.ومن ثم يصبح قادرا على تثبيت نموذج البناء الأخلاقي المناسب.


د. مجدي سعيد


1- عبد الحليم سعيد: رسالة إلى ابنتي العزيزة وإلى ولدي العزيز.

2- السعيد محمد عاشور: بل من هنا نبدأ، أو تجربة واحة الصبيان.

3- باولو فريري: تربية الحرية.. الأخلاق.. الديمقراطية.. الشجاعة المدنية، ترجمة أحمد عطية أحمد، تقديم حامد عمار، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2004.