على بعد (170) كم شرق مدينة “أطار” عاصمة ادرار “الشمال الموريتاني” تقع مدينة “وادان” الأثرية، التي يعود تأسيسها إلى القرن السادس الهجري، وبالتحديد في عام 536هـ، وتقول الروايات التاريخية الشعبية: إن نشأة المدينة تعود إلى ثلاثة رجال صالحين وجدوا – قدرًا – بسفح الجبل المطل على المدينة حاليًا – وأنهم اتفقوا على الحج، وعند عودتهم يقومون بالاستقرار هناك، نظرًا لموقعه – أي الجبل – المميز، الذي يصلح لبناء رباط كانوا قد اتفقوا على تأسيسه بعد عودتهم من مكة، وإذا كانت تلك هي الرواية الشعبية التاريخية لتأسيس المدينة، فإن الروايات التاريخية الموثوق بها علميًّا تقول: إن مؤسس المدينة هو الحاج عبد الله الحاج شيخ قبيلة “أد الحاج” التي ما زالت تقطن المدينة.. وقد بدأ في تشييد سور حول المدينة في عام 540هـ واستمر العمل فيه إلى عام 547هـ.
السور والمدينة
يأتي موقع وادان في طريق القوافل، حيث توجد في صرة الصحراء الكبرى؛ ليوفر لها وضعًا خاصًّا، من حيث الغناء والازدهار الاقتصادي.. الأمر الذي يجعلها محط طمع القبائل البدوية التي تقع مرابضها ومضاربها حول وادان خصوصًا في الأوقات التي تعصف فيها الظروف بهذه القبائل “كفصل الصيف الذي تهجر فيه الفرحة وجوه أولئك المحاربين.. فيبدءون في الغزو.. وتأتي مدينة وادان كصيد ثمين هين الالتقاط”، وقد دفع هذا الوضع سكان المدينة إلى إنشاء سور عظيم حول المدينة، يكون من القوة والضخامة بحيث يصد حتى تطلعات أولئك البدو والغزاة.
وفعلاً تم إنجاز هذا السور، وقد سهَّل ذلك وضع المدينة في سفح جبل كبير يكاد يلتف حولها، ويحضنها بحنان، سهل ذلك الوضع إقامة هذا السور العظيم، حيث كان يتدرج من أعلى الجبل إلى أسفله آخذًا شكلاً دائريًّا.. وقد وفَّر هذا السور لأهل المدينة فرصة نادرة، من أجل الحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم.. إذ تحكي الروايات أن وادان لم تُنهب مرة منذ إنشاء السور.. حتى صار مضربًا للأمثال الشعبية “إش عليك يا وادان نفير آخر الليل”، وذلك لما يوفره هذا السور من حماية من الأعداء أيًّا كانوا.. ولم يسجل التاريخ سوى حصار واحد في بداية القرن التاسع عشر ضربته إحدى قبائل الرقيبات الصحراوية حول المدينة، ودام شهرًا كاملاً، لكن تلك القبيلة ولَّت أدبارها مندحرة أمام هذا السور.
وصف السور
توضح الخرائط الأثرية للسور أنه كان على شكل دائرة تمتد من أعلى الجبل غربًا لتنتهي عند سفحه شرقًا.. وبُنِيَ دائريًّا ليضم عيون المياه التي تقع على بعد مسافة نصف كيلو متر شمال المدينة.. ويبلغ سمك حائط السور مترًا ونصف المتر، ويبلغ ارتفاعه أربعة أمتار في الأماكن البعيدة عن البوابات، بينما يبلغ ارتفاع السور وسمكه عند البوابات الضعف، ومواد البناء التي استخدمت في بناء السور هي الحجارة والطين ومواد أخرى استقدمت من فاس والقيروان، وللسور أربع بوابات، كل واحدة منها في جهة من الجهات الأربع.. وأضخمها البوابة الشرقية وتدعى “فم المبروك”. وكان لتلك البوابات حرس خاص يعملون طوال اليوم ولهم زي يميزهم.. ويتم تدريبهم وانتقاؤهم من بين الأقوياء من الأرقاء، بينما يوجد على رأس كل فرقة عريف من أبناء أعيان المدينة، وكان لكل باب طبل خاص، يقرع عددًا معينًا من المرات، إيذانًا بفتحه أو إغلاقه. وكانت هذه البوابات موزعة من حيث أهميتها، حيث لكل واحدة منها قيمة خاصة وهدف تقوم به. ففي الوقت الذي تمثل فيه بوابة “فم المبروك” مدخلاً رئيسيًّا للقوافل القادمة من المشرق من مصر والحجاز وتونس والسودان والشام وكذلك من الجنوب الشرقي من مالي.
تقابل هذه البوابة بوابة أخرى من جهة الغرب، وهي أصغر حجمًا، وتدعى “فم القصبة”، وخصصت هذه البوابة للقوافل القادمة من النهر السنغالي، وتُدْعى تلك القوافل “القارب”.
هذا في الوقت الذي تمثل البوابتان الجنوبية والشمالية مصدري دخول وخروج الحيوانات وأصحاب المشاغل من سكان المدينة.
الازدهار والحيوية
يعتبر القرن الثامن عشر، وكذلك العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، فترة الازدهار الذهبية للمدينة، وقد كان ذلك لعدة عوامل تضافرت مجتمعة، من بينها الموقع المتميز في قلب الصحراء، والأمن والاستقرار اللذان وفرهما سور وادان في وقت كانت التجارة الدولية عبر الصحراء تشهد ازدهارًا منقطع النظير، فكانت القوافل تمخر عباب تلك الصحراء حاملة الملح والدقيق، والحبوب متجهة نحو المشرق، ثم قادمة منه.. وكلها تمر بوادان تقريبًا.. الأمر الذي جعل المدينة تعج وترفل في نعيم مقيم.. وتزدهر ليس كسوق اقتصادية ومحطة تجارية هامة فحسب، وإنما كمصدر إشعاع حضاري منقطع النظير، طارت شهرته العلمية والثقافية عبر الآفاق، وأخذ اسمها يلمع كمنافس قوي لمدن أخرى عتيقة كانت ترتدي حلة المعرفة والثقافة في المغرب كشنقيط وفاس والقيروان… إلخ.
ويبدو أن شهرتها فاقت نظيراتها السالفات لدرجة سريان الأمثال الشعبية فيها، حيث يقول المثل الليبي الدارج: “التمر فزاني (قرية بليبيا) والعقل والعلم واداني” ولا يعتبر هذا المثل من باب المبالغات والتزود.. إذ إن الروايات التاريخية الموثوقة تقول من ضمن ما تقول: إن طالب العلم – أيًّا كان مستواه أو الفرع المعرفي الذي يتعلم – يجلس في الطريق لتلقي العلم.. كما يتعضد هذا المثل، ويزداد ترسيخًا إذا علمنا أن في مدينة وادان شارعًا لا يزال معروفًا يقال له: “شارع الأربعين مفتي” لكثرة العلماء به.
وتمتلئ كتب التاريخ – الموريتاني والمغربي – ومخطوطاته بالحكايات عن كرم وأصالة أهل وادان ونبلهم.. فهم أهل الخير والعلم، فكلمة وادان تحريف لتثنية كلمة واد والواديان المعنيَّان هما “واد من علم، وواد من تمر”.
وكان أهل وادان يتبعون نظامًا خاصًّا في كل شيء، من ذلك أنهم يفتحون في كل حي دارًا للضيافة يتم الإشراف عليها بالتناوب.. وقد بلغ أهل المدينة حدًّا لا يوصف من التكافل الاجتماعي، إذ يكفي أحدهم لبناء دار أن يفكر فيها؛ فيقوم الكل بالمساهمة فيها حتى تقام.
وفي هذا الصدد يُحْكى أن سيدة غنية من أهل المدينة أرادت أن تحفر بئرًا من مالها الخاص، وتجعلها وَقْفًا.. فكانت تقوم بالحفر ليلاً.. فلما أنجزت العمل علم به حكماء المدينة فهدموا البئر عقابًا لها؛ لأن مثل هذه الأعمال في عُرْف أهل المدينة لا تتم إلا باشتراكهم جميعًا.
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وتغيرت معايير الحياة وضروبها. فجأة حُوِّلَت وسائل المواصلات الحديثة سفن الصحراء إلى مجرد سلاحف تسير ببطء لا يمكن للحياة أن تستوفي شروطها الطبيعية الجديدة معه.. فلم يَعُد الجمل كما كان.. وانقطعت تجارة الصحراء.. فبدت المدينة الزاهية بالأمس، تهرول اليوم نحو الشيخوخة والهرم.. وسرعان ما تحولت وادان إلى أطلال بالية وأسمال، وأخذ سكانها ينظرون إليها كسجن رهيب.. كان ذلك منذ الأيام الأولى في هذا القرن، حيث جاءت عوامل جديدة أكثر عمقًا في تجذير أزمة هذه المدينة.. كالتصحُّر، الذي التهم كل المناطق الرعوية المحيطة.. وهجرة الأدمغة، التي بدأت في النزوح إلى المناطق الجديدة كسينلوى في السنغال ثم نواكشوط بعد ذلك.. وذلك بحثًا عن فرص أفضل.
ومنذ عقد تقريبًا بدأت السلطات الموريتانية من خلال هيئة المحافظة على المدن القديمة في ترميم آثار المدينة وإجراء حفائر أثرية بها في محاولة للحفاظ على طابعها المعماري المتميز.