مقدمة عن الصحابي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : يظن بعض الناس أن مسألة الفتوحات الإسلامية في العراق والشام ومصر وسائر البلاد كان يحركها الإيمان وحده، وتؤججها حماسة النفوس وشغفها بالشهادة، وأنهم ظفروا بالنصر لصدق إيمانهم وإخلاص نياتهم دون نظر إلى أمور لا بدَّ منها لتحقيق النصر؛ فالفوز لا يحققه الإيمان والحماسة دون التجهز والإعداد، ووضع الخطة المُحكمة والتزام الجند المدربين بها، ووجود القائد النابه الذي يقود جنده إلى النصر، ويغير من سير المعركة حسبما تقتضيه الأحوال.
وحين خرج المسلمون لفتوحاتهم كانوا يمتلكون من أسباب النصر ما لا يمتلكه غيرهم، من صدق الإيمان وخبرة الحروب وميادين القتال، ووفرة القادة الأكْفَاء، وحماسة الجند وحسن تدريبهم، ووحدة الهدف؛ فاجتمع عندهم ما يكفل النصر، وإن كانوا أقل عددا وعتادا من عدوهم؛ فما قيمة الكثرة الكاثرة من الجند إن افتقدوا إلى الإيمان الصادق والتدريب الحميد والرغبة في القتال؟! وما قيمة السيف الباتر في يد الجبان الرعديد؟! وما قيمة القائد المحنَّك إن تخلَّى عنه جنده في الميدان، ولم يلتزموا بالصبر والثبات، وتنفيذ ما يعهد إليهم من مهام؟!
والذي يثير الإعجاب والتقدير في نجاح الفتوحات الإسلامية هو اجتماع كل هذه العناصر؛ فتحقق للمسلمين من سعة الفتح في سنوات قليلة ما لا تحققه أمم في قرون عديدة، وكان من أسباب النصر التي تدعو إلى التأمل وفرة القادة فإذا أخفق قائد في مهمته عاجله الخليفة بمن يحل المشكلة، ويحقق النصر.
وكان اختيار الخليفة لقادة ألويته اختيارا دقيقا، يقدم مصلحة الأمة، وينتقي للمهمة أكفأ الناس لها، وإن كان أحدث سابقة في الإسلام، وإن ممن اختارهم أبو بكر لقيادة فتوحاته خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وفي الصحابة من هم أقدم منهم سابقة، وأكثر علما، لكنه يختار للمهمة من هو جدير بها، وكان يزيد واحدا من قادة فاتحي الشام الأَكْفَاء.
من هو يزيد بن أبي سفيان؟
هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب، أسلم في فتح مكة في العام الثامن من الهجرة، وهو أخو معاوية بن أبي سفيان من أبيه، وأخو أم المؤمنين أم حبيبة زوج النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، شهد مع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم غزوة حنين، وأعطاه من غنائمها مائة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة، وفي خلافة أبي بكر الصديق عقد له مع أمراء الجيوش التي بعثها لفتح الشام.
كان الصحابي الجليل خالد بن سعيد بن العاص أول قائد عقد له أبو بكر الصديق لواء فتح الشام، وأمره أن يعسكر بجيشه في تيماء شمالي الحجاز، وألا يقاتل إلا إذا قوتل، وكان الخليفة يقصد من وراء ذلك أن يكون جيش خالد بن سعيد عونًا ومددًا عند الضرورة، وأن يكون عينه على تحركات الروم، لا أن يكون طليعة لفتح بلاد الشام، لكن “خالد” اشتبك مع الروم التي استنفرت بعض القبائل العربية من بهراء وكلب ولخم وجذام وغسان لقتال المسلمين، فهُزم هزيمة مروعة في مرج الصفر، واستشهد ابنه في المعركة، ورجع بمن بقي معه إلى ذي مروة ينتظر قرار الخليفة أبي بكر الصديق.
لواء يزيد
ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى المدينة فزع الصديق وأهمّه الأمر، فجهَّز أربعة جيوش إلى الشام بعد أن استشار أهل الرأي والخبرة من الصحابة، واختار لها أكفأ قادته وأكثرهم معرفة بأمور الحرب وخبرة بميادين القتال، وحدد لكل جيش وِجهته ومهمته التي سيقوم بها، وكان الجيش الأول تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، ووجهته البلقاء (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان الجيش الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته منطقة بصرى.
وجعل أبو بكر الصديق قيادة الجيش الثالث لـ أبي عبيدة بن الجراح، ووجهته منطقة الجابية، وجعل له القيادة العامة عند اجتماع الجيوش الأربعة. أما الجيش الرابع فكان بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين.
الخروج للوجهة
كان يزيد بن أبي سفيان أول أمراء الشام خروجا، فغادر المدينة في (23 من رجب 12 هـ = 3 من أكتوبر 663م)، وخرج أبو بكر يمشي معه، ويزيد راكب في جنده، فقال له: يا خليفة رسول الله إما أن تركب، وإما أن تأذن لي فأمشي معك، فإني أكره أن أركب وأنت تمشي، فقال أبو بكر: “ما أنا براكب وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله”، ثم أوصاه بوصية جامعة، تبين سلوك الفاتحين المسلمين وأخلاقهم في التعامل مع أهالي البلاد التي سيفتحونها، جاء فيها:
“يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له والخوف منه، وإذا لقيت العدو فأظفَرَكُم الله بهم؛ فلا تغْلُل، ولا تمثل، ولا تغدر، ولا تجبن، ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكلة، وستمرون بقوم في الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له”.
سار يزيد بجيشه من “ذي مرة”، وهي من أعراض المدينة، في ثلاثة آلاف جندي، ثم أمده أبو بكر الصديق حتى بلغ جيشه سبعة آلاف وخمسمائة، واتجه بهم حتى وصل البلقاء، كما أمره الصديق.
ثم توالى وصول الجيوش الثلاثة إلى جنوبي الشام، وبلغ مجموعها نحو 24 ألف مقاتل، لكنها لم تستطع التوغل في بلاد الشام بعد أن احتشد لهم قيصر الروم بكل ما يملك من قوات وعتاد، ولما رأى قادة الجيوش الأربعة ذلك بعثوا إلى الصديق يطلبون منه المدد، فأعانهم بمدد من عنده، لكن الموقف في جبهة القتال لم يتغير؛ فهال الخليفة أن تبقى الأوضاع في الشام دون تحرك، وأن يعجز القادة المجتمعون عن تحقيق النصر في أول لقاء حاسم مع الروم، فاستدعى خالد بن الوليد من جبهة العراق؛ حيث كان ينتقل من نصر إلى نصر، والأبصار متعلقة بما يحققه من ظفر، وأمره أن يأتي بنصف جيشه معه ويتولى القيادة العامة في الشام.
وما كان لأبي بكر الصديق أن يفعل هذا إذا لم تكن لديه ذخيرة من القادة الأكفاء، فإذا أخفق واحد في مهمة فلديه من ينجزها على خير وجه، وإذا كان أربعة من قادته الأَكْفَاء عجزوا عن تحريك الموقف في بلاد الشام؛ فلا ضير؛ فعنده من يمكنه تغيير الأوضاع وإثارة الهمم، ومفاجأة العدو بما لا ينتظره، وهذا من أسباب نجاح الفتوحات التي لم تقتصر على عدد معين من القادة، وإنما أعطت وفرتهم الفرصة المناسبة لاختيار من يصلح لمعركة ما، وإن كان لا يصلح لغيرها.
في أجنادين واليرموك
جاء خالد بن الوليد إلى الشام في تسعة آلاف جندي بعد أن اجتاز صحراء السماوة، في واحدة من أعظم المغامرات العسكرية في التاريخ جرأة وإقداما، وتولى القيادة العامة للجيوش الأربعة، وبدأ في إعادة تنظيمها على نحو جديد، ونجح في تحقيق النصر في (27 من جمادى الأولى 13هـ = 30 من يوليو 634م).
ثم اشترك يزيد بن أبي سفيان في فتح دمشق سنة (14هـ = 635م)، وكان على كراديس الميسرة في معركة اليرموك التي قادها خالد بن الوليد، واستحدث نظاما جديدا، في الجيوش الإسلامية بأن جعلها كراديس -أي كتائب-، ويضم كل كردوس نحو 1000 رجل، وعلى رأسه قائد منهم ممن عُرفوا بالشجاعة، وقد جمع خالد هذه الكراديس بعضها إلى بعض، وجعل منها قلبا وميمنة وميسرة، فكان أبو عبيدة بن الجراح على كراديس القلب، وعمرو بن العاص على الميمنة، ويزيد على الميسرة.
يزيد أميرا لدمشق
بعد أن تحقق النصر في اليرموك، وأصبح المسلمون سادة الشام قام أبو عبيدة بن الجراح بتوزيع الشام على قادته، وكان يتولى السلطة العامة على جيوش المسلمين بعد عزل خالد بن الوليد، فاستخلف يزيد بن أبي سفيان على دمشق، وعمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن.
ومن دمشق خرج يزيد بن أبي سفيان غربا إلى ساحل الشام، ففتح صيدا وعِرْقَة وجبيل وبيروت، وكان على مقدمته أخوه معاوية بن أبي سفيان، وكان كلما فتح مدينة جعل لها حامية تكفيها.
وفاة يزيد
متى وأين توفى يزيد بن أبي سفيان ؟
في العام الثامن عشر من الهجرة رُوِّع الشامُ بوباء مهلك عُرف بطاعون عمواس أفنى أعدادا هائلة من المسلمين، ومكث عدة أشهر، ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفًا من المسلمين، وقد بدأ الوباء من عمواس، ثم انتشر حتى عمَّ الشام كلها.
ومات في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح أمير أمراء فتح الشام، وله من العمر ثمانية وخمسون عاما، ومعاذ بن جبل، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، وشرحبيل بن حسنة، وسهل بن عمرو. ولما أتى إلى عمر بن الخطاب خبر وفاة أبي عبيدة كتب إلى يزيد بن أبي سفيان بولاية الشام مكانه، لكن “يزيد” مرض وهو يحاصر قيسارية، فانصرف إلى دمشق حيث تُوفِّي بها في آخر سنة (18هـ = 639م)، فكتب عمر إلى معاوية بن أبي سفيان بتوليته ما كان يتولاه أخوه يزيد.
أحمد تمام5>