يخطئ من يعتقد أن هذا الرجل “جوزيه بوفيه” مؤسس فيدرالية المزارعين في فرنسا هو مجرد فلاح عادي استهوته لعبة التنظيمات الشعبية، وغلبه الحماس الوطني الأوربي ضد كل ما هو أمريكي حتى أصبح اليوم معروفا بأنه العدو رقم 1 للهيمنة الأمريكية!

فالصحيح أن “بوفيه” الذي أصبحت صورته وهو مغلول اليدين رمزا لمكافحة الإمبريالية الأمريكية في العالم هو في الأصل دارسٌ متعمق في الفلسفة، وعاشق لفلسفة أفلاطون على وجه الخصوص، بل ويحمل درجة الدكتوراه في هذا التخصص أيضا.

وبوفيه من زمن منشغل بالانخراط دائما في تجمعات تدعو لتحسين أحوال الزراعة والمزارعين، وأثمرت جهوده تلك عن نجاحات كبيرة فقد كان الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران أحد من اقتنعوا ببعض أفكاره وقام بتطبيقها، ومنها فكرة أن يكف الجيش الفرنسي عن “وقف” الأراضي الزراعية لحسابه.

الفلاح الفصيح يحصل على الدكتوراه

تعرف جوزيه بوفيه –أثناء دراسته الجامعية- على زوجته “أليس” التي شاركته أفكاره الإصلاحية منذ كانا زميلين في جامعة مونبيلييه بجنوب فرنسا، لتكون له الزوجة والصديق وشريك الكفاح، وتحمل “أليس” درجة الماجستير في الفلسفة. لَمَع نجم الرجل في سماء فرنسا بل والعالم منذ المعركة التي دارت رحاها داخل أحد مطاعم الوجبات السريعة في قرية “ميو” في 12 أغسطس 1999 عندما تجمع نحو 300 من مربي الأغنام أمام المطعم ليعلنوا رفضهم للإجراءات العقابية التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد وارداتها من الجبن الفرنسي الشهير المعروف باسم “روكفور” ردًّا على موقف الاتحاد الأوربي الرافض لاستيراد “اللحم المهرمن” -الناتج من حيوانات تدخل الهرمونات في غذائها- القادم من الولايات المتحدة.

استجاب مربو الأغنام في قرية “ميو” لنداء “فيدرالية المزارعين” التي أسسها “بوفيه” للتظاهر؛ لأنهم تضرروا بشكل موجع من هذا الإجراء الأمريكي، فهذه القرية وحدها تصدر 440 ألف طن من الجبن سنويا إلى الولايات المتحدة بما قيمته 30 مليون فرنك، وبالقرية 1300 عامل يعملون في هذه الصناعة.

الرعب الغذائي = الرعب النووي < /SPAN > < /FONT >

كانت هذه الواقعة هي شرارة البدء في المعركة ضد الهيمنة الأمريكية فانطلق بعدها جوزيه بوفيه إلى آفاق أخرى فهو يقول مثلا: “لقد بلغ السيل الزبى، فالطعام الرديء ملأ الأرجاء من حولنا وها هو يجد طريقه بسهولة إلى بطون أولادنا”. ويستطرد قائلا: “بسبب جنون البقر واللحوم المهرمنة والكوكاكولا المغشوشة وعمليات الجينات المعدلة أصبحنا غير متأكدين ولا واثقين مما نحشو به بطوننا”.

ويخلص بوفيه في هذا السياق إلى مقولة صارت شعارا فيما بعد هي: “إن الرعب الغذائي أصبح أشد فتكا من الرعب النووي“.

وعندما ألقى البوليس الفرنسي القبض على جوزيه بوفيه ورفاقه بتهمة تحطيم أحد مطاعم الوجبات السريعة في قرية ميو أصبح الرجل في عيون مربي الأغنام وعيون مناهضي العولمة في العالم “بطلا أسطوريا”، وأمضى الرجل 3 أشهر داخل السجن في مدينة مونبيلييه.

مزيد من القمح من أجل الحياة

كان سجنه بمثابة الدعاية الكبرى لأفكاره التي نادى بها من زمن، والتي تتمثل في عدة أفكار منها أن عَالَم المزارعين بوسعه أن يبدأ حركة حضارية جديدة، وأن المجتمع الزراعي قادر على انتشال العالم من كبوته. وحفظ أنصار فيدرالية المزارعين مقولات “بوفيه” جيدا التي ينادي فيها بالوقوف سدًّا منيعًا ضد الزراعة الصناعية التي تنتج لنا الطعام الرديء، ويدعو إلى ما يسميه الزراعة الطبيعية، وشعاره النافذ في هذا الشأن فهو “مزيد من القمح من أجل الحياة”.

وفي هذا الإطار يضع بوفيه جملة من التصورات الجديدة لمستقبل العالم من منظور الإنتاج الزراعي، وإيجاد وظائف جديدة للمزارعين والمحافظة على البيئة، والقضاء على الصراع بين المزارعين والمستهلكين وأنصار الطبيعة من خلال التعاون بينهم.

بوفيه يرتدي الكوفية الفلسطينية

 لكي تكتمل الصورة بشأن “جوزيه بوفيه” زعيم حركة مناهضة العولمة في العالم، يجب أن نشير إلى المهام التي قام بها لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني.. فعندما تقاعست المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة عن القيام بدورها في إرسال مراقبين دوليين إلى الأراضي الفلسطينية، تطوع جوزيه بوفيه مع 20 من رفاقه، ووصلوا إلى الأراضي الفلسطينية، وعاشوا مع الفلسطينيين، ورأوا بأعينهم سياسة الفصل العنصري التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء الأرض الأصليين..

وهو يصف ما رآه في فلسطين لجريدة لوفيجارو، قائلا: “رأيت بعيني كيف وقف المزارعون الفلسطينيون ساعات طوية تحت أشعة الشمس ينتظرون أن يسمح لهم جندي إسرائيلي بعبور الحاجز الذي يفصل بين منازلهم وأراضيهم.. أو يسمح لهم بالسير عدة أمتار ثم يأمرهم بالتوقف فورا… رأيت كيف كان المساكين يمتثلون لهذه الأوامر العبثية لأنهم يعرفون أن من يتجرأ منهم بالاعتراض لن ينال سوى الموت”.

ويمضي بوفيه قائلا في أسى: “بل رأيت أبشع من ذلك.. رأيت كيف يصلبون الشباب على الحوائط تحت أشعة الشمس الحارقة بدون سبب أو مبرر اللهم إلا التلذذ بالإيذاء. ورأيت كيف يحرمون آلاف الفلسطينيين من مغادرة منزلهم المحاصر لمدة أشهر طويلة”.

ويطرح بوفيه السؤال ساخرًا ناقمًا: “إذا كان هؤلاء الناس لا يحتاجون إلى حماية، فمن يحتاجها بعد ذلك” في إشارة واضحة إلى تقاعس الأمم المتحدة عن القيام بدورها في حفظ الأمن وإقامة السلام والاستجابة للشعب الفلسطيني الذي يصرخ منذ زمن طالبا حماية دولية من سياسة البطش والعنف والقتل التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

قدم بوفيه بزيارته لفلسطين أكثر من الكلام حيث نستطيع أن نقول بأن تأثيره كان نافذًا على الرأي العام الفرنسي، فعندما اخترق بوفيه كل الحواجز الأمنية وتحدى جبروت الجيش الإسرائيلي حتى وصل إلى مقر الرئيس عرفات المحاصر، وقام بجولة في مخيم جنين عاد ليكتب يومياته في صحيفة “لوموند” الفرنسية –إحدى أكثر الصحف انتشارا- ناعيا على المجتمع الدولي لامبالاته وهو يشاهد الشعب الفلسطيني الأعزل يواجه الدبابات الإسرائيلية بالحجارة.

الجينات المعدلة.. الخطر القادم

يعتني بوفيه بمستقبل العالم فهو من ناحية يحذر من الخطر الداهم الذي يجب أن ينتبه إليه الضمير العالمي –من وجهة نظره- وهو “الجينات المعدَّلة”، ويعترف يوفيه بأن حربه ضد هذه الجينات يصعب إحراز النصر فيها بسبب لوبي تجارة اللحوم، ولوبي تجارة الهرمونات معا اللذين يملكان قدرات فائقة، ووسائل ضخمة لممارسة ضغوطهما على أصحاب القرارات السياسية في العالم، ويقول: “إن الحل الأمثل لمواجهة هذا الأخطبوط هو أن يتعاون المزارعون والمستهلكون وأنصار الطبيعة في إدارة هذه الحرب”.

ويعد من أهم جهود بوفيه محاربة استخدام الجينات المعدلة، ففي يناير 1998 قاد بوفيه مزارعي فرنسا إلى حملة إعدام كميات كبيرة من محصول الذرة بسبب الجينات المعدلة. وفي يونيو من عام 1999 فعل نفس الشيء مع الأرز. وفي سياتل بأمريكا عام 1999 رفع شعارات ضد فرانكشتين! دلالة على الخطر القادم من الجينات المعدلة.

ويحصر جوزيه بوفيه مخاطر هذه العملية بقوله.. إننا لسنا في حاجة إلى ميكانيزمات الجينات لتحسين الزراعة؛ لأن ضرر ذلك أكبر من نفعه، وهو لا يجد أي أهمية لاستنبات سلالات جديدة من النبات، فهو يرى أن الأرز مثلا يوجد منه نحو 140 ألف نوع في آسيا تتواءم مع جميع الظروف المناخية أو الأرضية؛ فهناك أرز طويل، وآخر قصير، وثالث سواحلي.. ويقول: “إن الأرز يعد حضارة في حد ذاته، ومع ذلك فلا ينتشر منه سوى 5 أنواع تزرع في نحو 70% من الأراضي الآسيوية”.

يرى بوفيه أن “منظمة التجارة العالمية هي دراكولا الذي يمص دماء الفقراء لصالح الأغنياء. وعندما سألته عن صحة ذلك في لقاء جمعني به قبل عام في جنيف أجاب: “هدفنا ليس إلغاء التحرر أو إلغاء منظمة التجارة العالمية، وإنما نسعى في كل المظاهرات التي نظمناها وخصوصا في سياتل إلى إيقاف المفاوضات الرامية إلى توسيع حقول السوق العالمية، وما نحذر منه هو أن توسيع مفهوم السوق الذي تروج له منظمة التجارة العالمية يخاطر بأن يضع الزراعة والخدمات الأساسية للإنسان (التعليم، النظافة،…، ومياه الشرب) بين أيدي الشركات متعددة الجنسية التي لا تعبأ بالإنسان ولا همَّ لها سوى الربح.

العولمة الرحيمة هي الحل

وبوفيه في سبيل اهتمامه بالمستقبل ربما يكون أفضل ما سيسجله التاريخ الإنساني لجوزيه بوفيه فهو أنه وضع نواة الحركة المدنية الدولية التي تطمح أن يكون لها دورها المؤثر في زمن العولمة الذي تقلص فيه دور الدولة، وتوارى رجال السياسة وراء رجال الاقتصاد، وأصبحت عجلة القيادة في يد الشركات العملاقة.. ثم دعوته لعولمة “رحيمة” في مواجهة العولمة المتوحشة التي لا يهمها من العالم –للأسف– سوى مزيد من الربح غير عابئة بالملايين الذين يموتون جوعا في إفريقيا أو تفتك بهم الأوبئة ويصرعهم فيروس الإيدز بلا رحمة.