البسملة آية من كل سورة غير (التوبة) لإجماع الصحابة على كتابتها في المصاحف، وإجماع القراء على قراءتها غير (التوبة)، ويؤيد هذا التواتر الخطي والقولي كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها؛ لأن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي، وأولى بالتقديم عند التعارض .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-ردا على سؤال مماثل :
في المسألة أدلة قطعية وأدلة ظنية، والقاعدة في تعارض القطعي مع الظني أن يُرجح القطعي إذا تعذر الجمع بينه وبين الظني، ولولا التعصب للمذاهب من قوم وللأسانيد من آخرين لأجمع المحدثون والفقهاء والمتكلمون على أن البسملة آية من كل سورة غير براءة (التوبة) كما أجمع الصحابة على كتابتها في المصاحف، وكما أجمع القراء السبعة المتواترة قراءاتهم على قراءتها عند البدء في كل سورة غير براءة- فهذان دليلان قطعيان أحدهما خطي متواتر والآخر قولي متواتر يؤيدهما كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها، ومنها ترك بعض القراء السبعة لتلاوتها في السورة التي توصل بما قبلها.
أما دعوى أنها كتبت في المصاحف للفصل بين السور فلو كانت صحيحة لكتبوها بين سورتي الأنفال وبراءة (التوبة) أيضًا, ومن المعلوم بالقطع أن الصحابة ومن اهتدى بهديهم لم يكتبوا في المصاحف شيئًا غير كلام لله -تعالى-.
وأما حديث ابن عباس (كان رسول الله-ﷺ-لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الصحيحين والبزار بسندين رجال أحدهما رجال الصحيح – فهو حجة على أن البسملة كانت تنزل مع كل سورة، لا أنها آية كُتبت للفصل بين السور بالاجتهاد، وقد توفي-ﷺ-ولم يأمر بكتابتها في أول سورة براءة وعللوا ذلك بنزولها بنقض عهود المشركين وبالسيف.
وأما أحاديث الإثبات..
(فمنها)حديث (نزلت عليّ آنفا سورة- فقرأ-بسم الله الرحمن الرحيم .إنا أعطيناك الكوثر) إلخ رواه مسلم والنسائي عن أنس.
(ومنها)سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله-ﷺ- فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم-يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد الرحيم .رواه البخاري، وفي معناه حديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود والدارقطني وقد قرأت الفاتحة كلها بالبسملة.
(ومنها)عدة أحاديث لأبي هريرة-قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن-الحديث وفيه-ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله-ﷺ-رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي: صحيح الإسناد وله شواهد.
(ومنها)قوله: عن النبي-ﷺ-كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات، ولكن اختلف غيره في عبد الله بن عبد الله الأصبحي من رجاله.
(ومن الآثار في المسألة)أن عليًّا كرم الله وجهه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، أي سورة الحمد لله..الخ فقيل له: إنما هي ست، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات.
(ومنها)إنكار الصحابة على معاوية ترك الجهر بها. رواه الشافعي عن أنس والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع، فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية نقضت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت ورفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر. ولعل المراد الجهر بذلك وإلا لأعاد الصلاة؛ إذ لا يعذر مثله بجهل كون البسملة منها. ويحتمل أن يكون أعادها وإن لم يذكر في هذه الرواية.
وأما أحاديث النفي..
(فأقواها) حديث أنس: صليت مع النبي-ﷺ-وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وله ألفاظ أخرى.
(ومنها) فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي لا القراءة، وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرّون إلخ، وقد أعلّ المثبتون حديث أنس هذا بالاضطراب في متنه، وبما رُوي من إثبات الجهر بها عنه وعن غيره، وقال بعضهم: إنه كان نسي هذه المسألة فلم يجزم بها، قال أبو سلمة: سألت أنسًا أكان رسول الله-ﷺ-يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك. الحديث رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح.
(ومن أدلة النفي) ما صح في الحديث القدسي من قسمة الصلاة بين العبد والرب نصفين وفسرها-ﷺ-بقوله: فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله عز وجل: حمدني عبدي إلخ الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة، والاستدلال بترك ذكر البسملة فيه على عدم كونها من الفاتحة ضعيف، ولو صح لصح أن يستدل به على كون سائر الأذكار والأعمال ليست من الصلاة،والقول الجامع:أن النبي-ﷺ-كان يجهر بالبسملة تارةً ويسر بها تارةً. وقال ابن القيم: إن الإسرار كان أكثر.
وذهب القرطبي في الجمع بين الأحاديث إلى أن سبب الإسرار بها قول المشركين الذين كانوا يسمعون القرآن منه: محمد يذكر إله اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب لأنه سمي الرحمن أو أطلقوا عليه لفظ رحمن بالتنكير كقول مادحه: وأنت غيث الورى لا زالت رحمانا وكانوا يشاغبون النبي-ﷺ-بإنكار تسمية الله-عز وجل-بالرحمن كما علم من سورة الفرقان وغيرها، فأُمر-ﷺ-بأن يخافت بالبسملة، قال الحكيم الترمذي: فبقي إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة. روى ذلك الطبراني في الكبير والأوسط، وذكره النيسابوري في التيسير من رواية ابن جبير عن ابن عباس، وقال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون.
وصفوة القول: إن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي، وأولى بالتقديم عند التعارض، وإذا فرضنا أنها تعادلت وتساقطت أو ربح المنفي على المثبت خلافًا للقاعدة جاء بعد ذلك إثباتها في المصحف الإمام في أول الفاتحة وأول كل سورة ماعدا براءة (التوبة) وهو قطعي ينهزم أمامه كل ما خالفه من الظنيات، وقد أجمع الصحابة على أن كل ما في المصحف فهو كلام الله-تعالى-أثبت كما أنزل سواء قرئت الفاتحة في الصلاة بالبسملة جهرًا أو سرًّا أم لم تقرأ، ولا عبرة بخلاف أحد بعد ذلك ولا برواية أحد يزعم مخالفة أحد منهم لذلك.
ولا حاجة مع هذا إلى تتبع جميع ما ورد من الروايات الضعيفة والآثار والآراء الخلافية، ومن ذلك أثر ابن عباس المذكور في السؤال، ولولا التطويل الممل بغير طائل لأوردنا كل ما ورد في المسألة رواية ودراية.