لآصرة الدين الإسلامي الحنيف مستلزمات لم تكن لتتولد أبدا من غيرها من الأواصر والروابط الاجتماعية الأخرى. وإن اللغة العربية لنموذج ذهبي لما ذُكر. ربط الإسلام الولاء والإخاء بأُخوّة الدين، وبنى عليها مفهوم الأمة الإسلامية؛ أكبر اتحاد عالمي عرفته البشرية وفق فلسفة دينية فريدة، إن لم يبالغ الكاتب!
ومن أهم خصائص هذه الأمة أن جعلت العربية لسانها فهما وتعبدا وتواصلا، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وأصبح اللسان العربي جزءا من ثقافة البوركنابي المسلم، وأخيه المالي، والحبشي، والفارسي، والرومي، والنيسابوري، والبخاري، والترمذي، والزمخشري، ونفطويه وسيبويه.. وهلم جرا.
اللغة العربية المراد خدمتها
اللغة التي يتحدث الباحث عن استراتيجيات نشرها وخدمتها هي لغة القرآن، وليست لغته الأم، أو اللغة الغربية السائدة، وليست لغة اليمن، أو مصر، أو الشام، أو.. ومن هنا فلعل جميع أصحاب هذه اللغات أجانب وأعاجم أمام لغة القرآن، ,ويعد كل من لم يَدرُسها ويقف على قواعدها غير ناطق بها، فهو ناطق بغيرها؛ وعلى مسلميهم تعلّمها.
من أهم خصائص هذه الأمة أن جعلت العربية لسانها فهما وتعبدا وتواصلا
يلفت الباحث النظر هنا إلى أن مصطلح “اللغة” و”اللهجة” كانا مترادفَيْن قديما، ولا يعد خطأ، وليس بمستهجن أن يقال “لغة قريش” أو لغة حمير” أو اللغة السعودية والمصرية والجزائرية. لكن وفق التطور اللغوي الحديث أصبح مصطلح “اللغة” يستعمل للدلالة على اللسان الأم، بينما “اللهجة” تستعمل للدلالة على اللغات الفرعية من هذا الأصل الأم. وأصبح من الخطأ ومن المستهجن أن يقال اللغة المغربية أو التونسية أو السورية، ويرون أن الأصح أن يقال لهجة أو عامية أو دارجة .
وللدليل على هذا نقف على حديث : (حدِّثْني بما نهى عنه النبي ﷺ من الأشربة بلُغتك وفسره لي بلغتنا فإن لكم لغة سوى لغتنا ..). ومثله: إنكار عمر على ابن مسعود قراءته “عتى حين”، أي “حتى حين،” وكتب إليه إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل. ومثله قول عثمان رضي الله عنه للكتاب أثناء جمع القرآن: “إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلغة قريش فإنه نزل بلغتهم” يقول العلماء أكثرها!
الشاهد أن كل ما ليس بلغة القرآن فهو لغة أجنبية.
تحديات هذه الدعوة
من أهم تحديات الدعوة إلى نشر العربية ما يأتي :
١- التحدي الغربي الاستشراقي: وذلك بدس التهم والأدلة الواهية في اللغة العربية، وبين أبنائها الناطقين بها، والتقليل من شأن من يقدسها.
٢- التحدي القومي الشرقي: يحاول بعض الناس تضييق الواسع بحملهم اللغة العربية نطاقا قوميا أو “قومجيا”، ويتبع ذلك دعوات جاهلية من التغني بالأفضلية العربية على غرار الأفضلية السامية أو العهد الإبراهيمي..
ومن هنا لا للدعوات الاستشراقية ولا للنعرات القبلية العنصرية، ولا مجال إلا للدين الحنيف.
تاريخ خدمة اللغة
كل هذه الخدمة للغة العربية كان دافعها دينيا؛ أي لفهم الإسلام فهما صحيحا، ولتسهيل مهمة الدعوة، وإفهام الأعجمي قضايا الإسلام، وحفظ تراث الأمة
لقد قام سلف الأمة بواجب الدعوة وتبليغ الإسلام، وأدى ذلك إلى خدمة اللغة العربية عبر العصور، من أهمها:
- تنقيط الأحرف بعد أن لم يكن، (قيل) مثلا كانت تكتب بدون نقاط فوق وتحت..
- تشكيل الأحرف والكلمات بعد أن لم يكن، (فتحة ضمة وكسرة).
- وضع قواعد اللغة العربية بعد أن لم يكن.
- تأليف المعاجم والقواميس.
- ميلاد علوم وفنون أخرى متعلقة باللغة العربية.
وهذه الأمور من إيجابيات دخول الأعاجم في الإسلام، إذ خُلق بذاك ظرفٌ يستدعي خدمة اللغة العربية بعد اللحن! ويذكر أن كل هذه الخدمة للغة العربية كان دافعها دينيا؛ أي لفهم الإسلام فهما صحيحا، ولتسهيل مهمة الدعوة، وإفهام الأعجمي قضايا الإسلام، وحفظ تراث الأمة. ومن هنا ساهم في هذا العمل الجبار كل مسلم، والتاريخ خير شاهد!
استراتيجيات حديثة لنشر اللغة العربية
أصبحت تلكم الأمور من أبجديات اللغة العربية، ولخدمة اللغة العربية في العصر الحديث فإننا نحتاج الآتي:
- توسيع نطاق اللغة العربية: إذ هي في الأصل لغة دين، ولا يهتم بها إلا المتدين، مما يعني أننا في عصر الإلحاد والعلمانية نحتاج إلى توسيع نطاق اللغة العربية وجعل الاهتمام بها أكبر من عامل ديني فحسب، وما سيأتي عوامل لهذا التوسيع.
- اعتبارها لغة تواصل، فيتم إنشاء مراكز تعليمية بمناهج ومقررات معاصرة ومبسطة، شأنها شأن مراكز تعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية وغيرها.
اللغة العربية تملك من الدوافع لتعلمها ما لا تملكها اللغات الأخرى، وهي في الوقت نفسه تحتاج أن تُتَبنّى
- جعلها لغة تعليم: بأن يؤلف فيها للعالَـم وما ينفع العالم وليس العرب أو المسلمين فقط، ويهتم بترجمة الكتب الجديدة إليها شأن “دار الحكمة”.
- جعلها لغة تثقيف وإعلام وفكر، فتكون مصدرا من مصادر إقبال المثقفين غير العرب للاستزادة.
- اهتمام الدول العربية بها في دوائرهم الحكومية والخاصة وفي محطات السفر وأماكن التجمع!
- اهتمام سفارات الدول العربية بها أينما وجدت، ودعمها، والسعي إلى نشرها باحترامها وإثباتها.
- جعلها تتواكب مع الحضارة والإبداع، والتقنية المعلوماتية.
- ولا شك أن هذا يتطلب ميزانيات وخططا وإيمانا بالمشروع، لأن القيادة والريادة لا تتحقق بأمان وأحلام!
أخيرا إن اللغة العربية تملك من الدوافع لتعلمها ما لا تملكها اللغات الأخرى، وهي في الوقت نفسه تحتاج أن تُتَبنّى. ومن أهم عوامل انتشارها في هذا العصر أن يعمل على إدخالها في حياة الناس لغة تواصل وعلم وثقافة، وهذا يعود بالفائدة على العمل الدعوي؛ إذ العربية تؤهل الناس للاطلاع على الإسلام من ينابيعه ومصادره الأولية! وإن العمل على نشر اللغة العربية واجب ديني على كل مسلم؛ وإن كان المسؤولية الأولى واقعة على عاتق من تكلم بها سليقة، ومن تعلّمها عليه أسهل من غيره، وبمن لو تخلوا عنها أحدثت بلبلبة في صف الأمة، ولعل هذا سر ربط المسؤولية بإنزال القرآن بالعربية: “وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون”!