عبد الخالق العواد

من بين الآفات التي تعرقل سبل الحواربين الناس، وتحجبهم عن الرؤية الواضحة للأمور، التخندق الفكري والنظرة الأحادية، والذي يتمثل في امتلاك الأفراد والجماعات لقناعات يتم ترسيخها تدريجيا، بشكل يصعب معه قبول آراء الآخرين مهما حاول هذا الآخر لتعزيز آرائه وتجويد عرضها.

 

فالمتأمل في واقعنا، لا يجد صعوبة في الوقوف على مثل هذه الحالات وذلك في كل مجالات الحياة، فعلى سبيل المثال، داخل الأسر، تجد تشبّث كل فرد برأيه وعدم رغبته في الحوار، خوفا من أن يكون في صالح  الطرف الآخر، مما يتسبب في مشاكل وصعوبات لا تحمد عقباها.

وفي مثال آخر، الاجتماعات و اللقاءات التي تشهدها مختلف المؤسسات والتجمعات البشرية بصفة عامة، أكثرها لا تسفر عن قرارات متفق عليها، كما لا تخلو من رفع الأصوات وتبادل الاتهامات، والتغول في فرض الذات والارادة على حساب الآخرين، وهذا مرده إلى تحكيم الهوى وطغيان المصلحة الخاصة على مصلحة الجماعة.(حبّك الشيء يعمي ويصمّ).

ولا نعجب أمام هذه الآفة المستشرية، إذا مارأينا حتى قاعات البرلمان التي تضم ممثلي وممثلات الأمة في بعض  البلدان تهتزّ لما تعرفه من عراك وعرقلة متبادلة. أين الأخلاق ؟ أين أدب الحوار؟ أين الحكمة؟ أين وأين..؟ أبهذا تتقدم البلدان؟ متى كان التدابر والصراع العقيم حلا لمشاكل الشعوب؟.

إن أي نشاط إنساني، لا يمكنه أن يثمر ثمارا إيجابية، إلا إذا تحرّر من أمراض وأدران معنوية، تسمّمه وتفرغه من حقيقته ، فيصير صورة لاروح فيها ، ومعلوم أن الصّورة مهما كبرت لن تغني عن الحقيقة .

فالذي يطغى على حياتنا اليوم ويا للحسرة! التسطيح وقصر النظر.وحب الذات والميكافيلية المفرطة. فلا يخفى أن أمراض النفوس هي أكبرعقبة أمام أي إصلاح، فمهما نظّر المنظّرون، وبحث الباحثون في أسباب تخلّف الشعوب وقابليتها للفقر وأخواته، تبقى كل محاولة دون استحضار هدا الجانب محاولة قاصرة.

ولا شك أن أكبر هذه الأ مراض هو النفاق، تجد الفرد يظهر خلاف ما يبطن، إما  رغبة في الظهور على الآخر، أو رغبة في السمعة والجاه. وعندما يختلي بنفسه يلعنها.فئة أخرى لا تجد حرجا في الإنتصار لأفكارها ولو أدّى ذلك إلى دمار بلد بأكمله.أي أنانية هذه؟ وأي طغيان هذا؟.

إن الله سبحانه لم يبخل علينا بالخيرات والموارد، ولكن نحن الذي بخلنا على أنفسنا بما يساهم في رقيها و يوقظ الكامن فيها. فالتعصب للرأي حجاب صفيق بين المرء والحق،وعائق عن العمل بالدليل،وعقبة في طريق الاستفادة من صواب المخالف. ذلك أن عدم الانفتاح على الآخروالدوران حول النفس يؤدي حتما الى ضيق الأفق الفكري والجمود الذهني.

ولا شك أن سرّ الخلاص من هذه الآفة المرضية التي تزداد يوما بعد يوم، هو خلوص القصد وحسن السريرة، أي استحضار الإخلاص، وابتغاء وجه الله تعالى ورضاه، وقطع النفس عن لذة الإستيلاء، وشهوة الاستتباع وفتنة الاستبشار بالمدح، وطمع الرئاسة.

قال ابن القيم: “فأما النية فهي رأس الأمروعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى ،فإنها روح العمل وقائده وسائقه ،والعمل تابع لها ويبنى عليها،يصح بصحتها ويفسد بفسادها،وبها ستجلب التوفبق،وبعدمها يحصل الخدلان”(إعلام الموقعين.4 /199).

حلّ آخر لايقل أهمية، يتمثل في نشر المحبة بين الناس وسلامة النفوس من الأحقاد، والتحرّرمن –الأنا-المرضية، التي تتخذ شعارا لها، أنا وبعدي الطوفان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

بناء على ما سبق يتعين على الغيورين على هذه الأمة، العمل على بناء الإنسان بناء تستحضر فيه كل مكونات شخصيته، كإنسان مكرّم من رب السماوات والأرض ومكلف بعمارة الأرض وإشاعة الصلاح بين العباد ومقاومة الفساد بكل أشكاله.

ولاشك أن هذا البناء ليس عملا سهلا، لأن الأمر يتعلق ببناء الإنسا ن وليس بناء عمارةأوجسر، إنه هذا المخلوق العظيم الذي أسجد الله له ملائكته. عملية كهذه تتطلب تضافر كل الجهود، وهي بحاجة إلى مهندسي الروح والعقل والجسد.

كماأن بناء بهذا النوع، يستدعي تسليط الوعي على كل تفاصيل حركة هذا الإنسان، ورصد تفاعله مع واقعه المتغير، ومقاومة التسطيح الذي يطغى على كل أموره.

سرّ آخر من أسرار النجاح، يتمثل في امتلاك الجرأة على الرجوع عن المعتقدات الخاطئة وتغييرها إذا ما تبيّن خطؤها، وهذا مبدأ رفيع له آثار حسنة في المجتمع لا ينكرها إلا معاند. لكن للأ سف أن هذا السلوك عزيز، وخاصة عند أغلب الفاعلين السّياسيين، فالسّياسي تجده شديد الثبات على أفكاره وآرائه التي يدافع عنها ويروجها وإن عرف أنها لم تعد صائبة، لكي لا ينعت بالفشل،لهذا تجده يقاوم الخصم بشراسة لا مثيل لها .

ختاما، لا يمكن أن نتحدث عن الإصلاح، في غياب الإهتمام بالإنسان بكل مكوناته، لأنه محور الوجود وما سواه ليس سوى وسائل و مسخرات، والوسائل تدور حول المقاصد، وبمعرفة المقاصد، والتركيز عليها، تتحدد المسؤوليات وتستقيم أمورالناس.