تطرح سورة البينة منهجا واضحا في دور الداعية في إقامة الحجة على من يدعوه، فإن الحق أولى أن تُفصّل له البراهين وأن تزول الحجب عنه ، فيبدو جليّا  في أعين الناس.

وهذا ما تدل عليه الآية الأولى في سورة البيّنة: ﴿‌لَمْ ‌يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 1] أي لن يزال الكافرون والمشركون مقيمين على كفرهم وباطلهم حتى تقام لهم الدلائل والبيّنات على الحق.

ثم شرعت الآيات في تفصيل هذه البيّنة فقال تعالى: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: 2-3].

وقد وصفت الآيات هذه البيّنة بوصفين دقيقين، أنها مطهرة وأنها قيمة، ومن جملة ما جاء في التفاسير حول هذين الوصفين ما يلي:

(مطهرة): أي من الباطل و قيمة عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ. (تفسير الطبري).

( مُطَهَّرَةً): مُنَزَّهَةٌ مِنَ الزُّورِ والضَّلالِ ، والقِيمَةُ المُسْتَقِيمَةُ المُسْتَوِيَةُ المَحْكَمَةُ. (تفسير الشوكاني).

 (مُطَهَّرَةً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْكَذِبِ، وَالشُّبُهَاتِ ، وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْقَيِّمَةُ: هِيَ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَهُ كُتُبًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ على أنواع من البيان.(تفسير القرطبي)

وهذه التفسيرات مجتمعة توضح في دلالتها على أن بيّنة الداعي وحجته في دعوته، ينبغي أن تكون واضحة في بيانها، و مستقيمة ومسددة في مقصدها منزهة عن الانحراف والتدليس والتشويه، لتظهر الحق في أبهى صورة وأقوى منطق وأروع بيان .

وتأمّل وصف المشركين بقوله تعالى (منفكين) وما فيه من تمسك هؤلاء القوم بباطلهم حتى إنهم لا ينفكون عنه بسهولة، مما يستدعي من أهل الحق ومن يدعون له أن يكونوا أقوى في تمسكهم بحقهم ودعوتهم إليه، وإقامة الحجة عليه.

ولعل كلمة “يتلو صحفا مطهرة” توحي بالجهر بالدعوة، وتبليغها لجميع الناس دون خوف أو حرج.

ثم تدعو الآيات أهل الحق إلى الاجتماع على حقهم والثبات عليه وعدم تفرقّهم شيعا وأحزابا ، فذلك أقوى لشوكتهم وأبْـين لحجتهم ، وأن لا يكونوا كأهل الكتاب الذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم والبيّنات: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]

ولكي يكون هذا الاجتماع صحيحا ، فلا بدّ من الأساس الذي يوحد بين الصفوف ويؤلف بين القلوب ألا وهو التوحيد: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]

ولعل من مقاصد سورة البيّنة الدعوة إلى التوحيد وإخلاص القلوب والأعمال إلى الله تعالى ، وحين تتجرّد النفوس – وخاصة الدعاة – عن المصالح الشخصية والأهداف الدنيوية وتستقيم النيات على الإخلاص لله وابتغاء ما عنده من الأجر والثواب ، عندها يتقبّل الله منهم ويحقق لهم مقاصدهم وغايتهم في نصرة الحق والدين .

إن هذا الدين الذي ندعو إليه هو دين يصلح العلاقة بين العبد وربه أولا ثم العلاقة بين العبد والناس ولعل هذا هو سبب الربط بين الصلاة التي هي حق الله والزكاة التي هي حق الفقراء من الناس في قوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]

ودين ٌ هذه مبادئه وتعاليمه لا شك أن يوصف بأنه دين قويم :” وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ” أَيْ: الْمِلَّةُ الْقَائِمَةُ الْعَادِلَةُ، أَوِ: الْأُمَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ. (تفسير ابن كثير)

وحين يظهر الحق جليّا ويُكشف الباطل وزيغه ، وتقام الحجج والبراهين على ذلك أمام العيان ، عندها يكون قد أعذر من أنذر ، ويصبح الكل مسئولا عما سيختار من أي الفريقين يكون؟

أهل الحق الذين هم خير البرية أم أهل الباطل الذين هم شر البريّة؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البينة: 6-7].

وتخصيص الخطاب لأهل الكتاب وإن كان الخطاب القرآني عاما ، فهو لأن أهل الكتاب قد جاءت صفة النبي الأمي الخاتم في كتبهم، فكان أولى بهم إذ بلغهم الدين الجديد أن يؤمنوا ولكنهم كفروا وأصروا على شركهم وباطلهم رغم علمهم بأنه الحق، ومن كان هذا طبعه فيستحق أن يوصف كما في الآيات بشرّ الناس والبريّة.

ولكي تكون الآيات تسلية للنبي والمؤمنين ، ولكل داعية إلى الله يسير على هذا الطريق إلى يوم الدين ، فإنها تنقلهم نقلة بعيدة في الزمان والمكان إلى ما أعد الله لهم من الجزاء في الدرار الأخرة ، فيقول تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [البينة: 8].

ولا شك أن إبراز الجائزة وتجلّيها للمتسابقين يزيدهم سعيا حثيثا وصبرا كبيرا في طريقهم ، ويجعلهم يستعذبون كل ما يلاقونهم في سبيل دعوتهم من العراقيل والأذى والابتلاءات، فكل ذلك يهون في ما سيلقونه عند ربهم في جنات النعيم.

ولعل خير ختام في السورة، نيل المكرمة العالية، ألا وهي رضا الله تعالى والذي تهون في سبيله كل ما في الدنيا من سخط وصخب، وشدة وكرب: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]

وما أعظم هذا الوصف ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: 8] كما قال السعدي: فرضي عنهم بما قاموا به من مراضيه، ورضوا عنه، بما أعد لهم من أنواع الكرامات وجزيل المثوبات.

ولن تصل مقام الرضا عن الله حتى تبلغ مقام الخشية وهو الخوف منه مع الحب والإجلال ، فتقوم بطاعته وتُحجم عن معصيته: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]