سبحان الله” كلمة تثلج القلوب، يقرّ بها الإنسان بعلوّ مكانة الله، الذي لا مثيل له في ذاته، ولا شريك له في صفاته. وترقّ بها النفوس حين يرددها اللسان خاشعا، فترفع إلى الله بين يديه، ويذوق بها المؤمن لذّة الإيمان، ويدرك من خلالها طعم التوحيد. فالتسبيح ليس مجرّد تكرار لفظي، بل هو تعبير عن إدراك عميق لعظمة الله، وانكسار صادق بين يديه، يتجلّى فيه خضوع العبد وتواضعه لربّه.
فالجدير بالذكر أن التسبيح عبادة يشترك فيها الخلق جميعا كما قال الله جل شأنه: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} وفي موضع آخر: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهم إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا }. فهو إيقاع الكون وجوهر وجوده، يعلو به كل كائن في خضوع لخالقه، وتسليم لجلالته.
ومن المهم أن يفهم المؤمن حقيقة التسبيح كما ورد في نصوص القرآن والسنة، ليحيا آثاره، ويجني ثماره، ويبقى قلبه موصولًا بالله في كل لحظة من حياته. فكلمة “التسبيح” مشتقة من الجذر اللغوي “سبح”، الذي يُطلق في الأصل على السير السريع في الماء أو الهواء.
أما من الناحية الشرعية، كما ذكر ابن منظور في لسان العرب فالتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من صفات النقص أو مشابهة المخلوقات. فقولنا: “سبحان الله” معناه: تنزيهًا لله عن الصاحبة والولد، وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. وقيل أيضًا: “سبحان الله” تعني السرعة إلى طاعته، والخفة في امتثال أمره، لما في التسبيح من معنى الإقبال والانطلاق. وجماع معناه: تنزيه الله تعالى وبعده عن أن يكون له مثل، أو شريك، أو نِدّ، أو ضد.[1]
لوضوح ما يكمنه التسبيح من المعنى نستحضر الحديث النبوي عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: “كُنَّا إذا سافَرْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا صَعِدْنا كَبَّرْنا، وإذا هَبَطْنا سَبَّحْنا”. فالتكبير عند الصعود إلى الأماكن المرتفعة مشروعٌ لتطهير القلب من شعور الكبرياء؛ إذ قد يشعر المرء عند العلو بنوع من التعالي أو التميز على غيره، فيأتي التكبير ليذكّره بأن العظمة لله وحده، وأنه سبحانه أكبر من كل شيء.
فالمسلم إذا كبّر في حال العلو، أقرَّ بعظمة الله، ونزّه نفسه عن الكبر. أما التسبيح عند الهبوط، فغايته تنزيه الله عن النقص، وغرس اليقين في قلب المسلم بأن تقلب الأحوال لا يمس كمال الله تعالى. وفي ذلك إشارة إلى أن التسبيح باب من أبواب الفرج، كما وقع في قصة نبي الله يونس عليه السلام، حين سبح في الظلمات، فقال: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين“، فنجّاه الله من الغم. وقد أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى مناسبة ذلك بقوله: “مناسبة التكبير عند الصعود أن الاستعلاء محبوب للنفس لما فيه من استشعار الكبرياء، فشُرِع التكبير ليُذَكِّر العبدَ بكبرياء الله تعالى. ومناسبة التسبيح عند الهبوط أن المكان المنخفض موضع ضيق، فشُرِع فيه التسبيح لأنه من أسباب الفرج.[2]”
كما رصد العلامة ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين قائلا: من آداب السفر أنه إذا صعد الإنسان شيئا مرتفعا كالجبل وكذلك الطائرة إذا صعدت فإنه يكبر يقول: الله أكبر إما مرة أو مرتين أو ثلاثا وإذا نزل: سبح قال: سبحان الله مرة أو مرتين أو ثلاثا ووجه ذلك أن الإنسان إذا علا فإنه يرى نفسه في مكان عال فقد يستعظم نفسه فيقول: الله أكبر يعني يرد نفسه إلى الاستصغار أما كبرياء الله عز وجل فيقول: الله أكبر .يعني: لو علوت أيتها النفس فإن فوقك من هو أعلى منك وهو الله عز وجل أما إذا نزل فالنزول سفول ودنو وذل فيقول: سبحان الله يعني أنزهه الله سبحانه وتعالى عن السفول والنزول، لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء”[3]
ومن الجوانب التي يستوجب ذكرها عند الحديث عن التسبيح أثره النفسي العميق في حياة المسلم حيث إن فيه راحة للنفوس وطمأنينة للقلب وتفريجا للهموم. فحين يلهج اللسان ب”سبحان الله” تفتح أبواب السكينة في القلب ويستبدل فيه الخضوع لله عز وجل والتسليم لقضائه بالضغوط والانفعالات. وقد دلت على هذا آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ فالتسبيح من أجل الأذكار وأعلاها منزلة.
إنّ من أروع ما في عبادة التسبيح أنها لا تُقيّد بزمان أو مكان، بل هي عبادة ممكنة في كل لحظة، وتصلح لكل حال. فالمؤمن الحيّ القلب يجعل من تسبيحه لله جسرا دائما يربطه بخالقه، فيسبّح في طريقه إلى عمله، وفي أوقات الانتظار، وفي لحظات الخلوة والسكون، بل حتى في زحمة الانشغالات اليومية. فالتسبيح لا يحتاج إلى طهر أو استقبال قبلة أو قيام أو جلوس، بل يكفي فيه حضور القلب وخضوع اللسان. وقد علّمنا النبي ﷺ كيف نجعل من أوقاتنا اليومية مواطن للذكر والتسبيح، فكان إذا استيقظ من نومه قال: “سبحان الله”، وإذا تعجّب، قال: “سبحان الله”، وإذا رأى ما يعجبه قال: “سبحان الله”، ليزرع فينا أن التسبيح ليس طقسًا موسميًا، بل هو أسلوب حياة ومفتاح القرب من الله في كل حين.
ولا يقتصر أثر التسبيح على الحياة الدنيا، بل هو زاد المؤمن في الآخرة، وأحد أسباب نجاته وثقل ميزانه يوم الحساب. فقد صحّ عن النبي قوله: “كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”، فتأمل كيف يمنحك الله ببضع كلمات يسيرة ثوابًا عظيمًا في الآخرة. بل جاء في الحديث الآخر: “من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة”، وهذا غراس لا يحتاج إلى مال ولا جهد، بل يحتاج إلى لسان ذاكر وقلب حاضر. فكل تسبيحة هي حجر يُبنى به صرحك في الجنة، وكل تسبيحة تُثقل كفة حسناتك يوم لا ينفع مال ولا جاه.