الابتلاء يطهر النفس الإنسانية من الشوائب والآثام والإنسان بطبيعته يمتلك نعمة الإحساس ، نحن نحتاج للعظة والبلاء أحياناً لنكون أفضل ، فالمحن تقربنا من الله وتغير أحوالنا ، بل إنها تهذب نفوسنا وتغسل قلوبنا، فالابتلاء هو أحد وسائل محبة الله لعباده ، قال رسول الله ﷺ : “إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى، ومَن سخِط فله السَّخطُ” ( حديث حسن رواه الترمذي).
وقد انقسم الناس في الابتلاءات إلى فئات ، فئة تسخط على الابتلاء وهي أشر الناس وقسم يرضى وقسم يصبر وقسم يحب البلاء وهو أخير الناس ، فالابتلاء قوة للصابرين وفرح للثابتين على الحق .
سيدنا محمد الأشد ابتلاء
لقد كان الأنبياء هم أشد الناس ابتلاء ثم يليهم الأولياء الصالحين ثم الذين يلونهم فالذين يلونهم فالأقل ثم الأقل وقد نال سيدنا محمد من البلاء ما لا يستطيع بشر احتماله فكان نموذج في الصبر والثبات ، قال ابن الجوزي : (من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليتفكر في أحوال رسول الله ﷺ). (صيد الخاطر).
كانت حياة النبي ﷺ مليئة بالمحن ، فقد ابتلي بأشد المحن في فقده لأبنائه صغاراً، فقد مات من الذكور القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم، أما بناته فقد توفين وهن في سن الشباب، فقد ماتت زينب ورقية رضي الله عنهما في سنة 8هجرياً ، وماتت أم كلثوم سنة 9هجرياً، وأما فاطمة رضي الله عنها فقد ماتت بعد وفاته ﷺ، لقد صبر عليه الصلاة والسلام على الابتلاء واحتسب، وكان لسان حاله كما قال عند موت ابنه ابراهيم عليه السلام: “إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون” (صحيح البخاري).
إن هذا ابتلاء شديد يقع على نفس النبي ﷺ بفقدانه أبنائه صغاراً وبناته في سن الشباب، وإنه ابتلاء تنهدّ له الجبال الراسيات، ولكن نفس محمد ﷺ الكبيرة تتعالى على ذلك كله، حتى إن أحد كفار مكة قد حاول تعيير النبي ﷺ بفقدانه أبنائه الذكور بأنه أبتر لا عقب له، فقد ذكر أهل السيرة أن العاص بن وائل السهمي إذ ذكر النبي ﷺ قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، ولو مات لانقطع ذكره، واسترحتم منه. فأنزل الله عز وجل في ذلك: { إنا أعطينك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر} (سورة الكوثر).
على قدر البلاء يكون الجزاء . وبحسب درجة الإيمان يكون الاختبار ولهذا كان ابتلاء سيدنا محمد هو الأشد فمن المحال أن يكون الناس جميعاً في سلة واحدة . فالبشر درجات ومستويات روحية وإيمانية. ويستحيل أن يتساوى الأصيل مع الدنيء وكذلك لا يستوي معدن الذهب والنحاس ولا البحار مع الأنهار . فالبحار تحوي ماءاً مالحاً والأنهار نستخلص منها ماءاً عذباً خالصاً للشرب.
تطهير النفوس
وإذا كانت شدة الابتلاءات تؤلم النفوس فإن هذا ليس سوى عملية تطهير لها مثل عمليات غسيل الكلى التي تطهرها من الشوائب والحصوات العالقة حتى يستطيع المريض أن يتعايش مع المرض ويتناول مع يشتهي من الأطعمة ، فما بالنا بالنفس وما تحمله من أسرار وتقلبات ، فالنفوس تنقسم إلى مراتب ودرجات، فالنفس المطمئنة تأتي في أعلى القائمة كما ذكر لنا القرآن الكريم قال تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 -30)
ثم تأتي النفس اللوامة في المنتصف فلاهي عاصية متكبرة ولا هي تسير على الطاعة الدائمة ، فهي ساعة وساعة ويعشم الكثير من البشر أن يكونوا ضمن تلك المرتبة الوسطى ، وألا ينزلوا عنها ، فربما تتداركهم رحمة الله في لحظات التوبة والبكاء فيقبض الله أرواحهم على الطاعة ، أما النفس الآثمة ( الأمارة بالسوء) فهي التي سقطت في وحل الرذيلة وقد تضم فئة تحاول الصعود إلى الدرجات الأعلى لتصل إلى النفس اللوامة وفئة ثانية تخلد إلى شيطانها فتهلك في براثن الخطايا.
ابتلاء إبراهيم عليه السلام
إذا كنت تنظر إلى البلاء بأنه غضب من الله . فيجب أن تتذكر أن سيدنا إبراهيم الخليل ألقى به قومه في النار وهو خليل الله – قال تعالى : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) ، ويشاء الله الكريم الرحيم أن ينجيه من النار ويجعلها برداً وسلاماً عليه . وكانت تلك معجزة خاصة بسيدنا إبراهيم وهي لم تتكرر لأحد سواه .
ابتلاء أصحاب الأخدود
ثم جاء في عصر آخر يعقب عهد سيدنا إبراهيم بسنين طويلة قصة أخرى تروى عن إناس مؤمنين يقال إنهم عاشوا باليمن ، حيث تم القاؤهم بالنار ولكنها حرقتهم في تلك المرة . إنهم أصحاب الأخدود الذين آمنوا بالمسيحية، قال تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ * وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ * وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ* قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ * ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ * إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ * وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ * وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (البروج: 1- 8).
إذن فالمعركة لا تنتهي دائما بالنصر الدنيوي لصاحب المبدأ ولكن الخير هو المنتصر حتى إذا مات فاعله قبل أن يرى هزيمة الشر ، فالعبرة ليست بالحياة الدنيا القصيرة ، بل العبرة بالحياة الأخروية الخالدة الباقية ، والأكثر من ذلك فإن الجوهر يبقى في الحق والعدل الذي يراه الناس بأعينهم في الدنيا والآخرة ، فقد كان لابتلاء أصحاب الأخدود صدى عظيم في التاريخ القرآني وتفاسير العلماء في التراث .
الابتلاء يحيي النفوس ويجدد الإيمان، فلم يبتليك الله إلا ليخفف عنك خطاياك وذنوبك ،وتكون المكافأة على قدر الصبر والرضا بقدر الله ، فالحياة خطوات تمتليء بالعبر والعظات ولكنها لا تخلو من بعض المتع القليلة ، فلا تستوي الحياة الدنيا مع الآخرة لأنهما ليسا في ميزان واحد ، فيستحيل أن يتساوى الخلود والأبدية مع الساعات القصيرة ، مثلما تتنافى الحياة مع الموت ، فلا يمكن قياس الفناء بالنماء .