أيام قليلة ستفصلنا عن الشهر المبارك هو ضيف عزيز ننتظره كل عام لِيحُل علينا ببركاته ورحماته، وكحال الضيف العزيز يحتاج لاستعداد وتجهيز لاستقباله، سواء كان الاستعداد في أنفسنا أو بيوتنا وأوقاتنا، وكلما عظمت مكانة الضيف كان الاستقبال والتجهيز لقدومه أكبر.
وفي حديث الترمذي : “رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ [1]، أي خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له، فهو شهر الخيرات والبركات تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران ويعتق الله عباده من النار، فلابد للمسلم من أن يتجهز لاستقباله، فإن الإعداد للعمل والاستعداد له، هو علامة صدق الإرادة والطلب.
وأهمية الاستعداد تنبع من أهمية الشهر الفضيل عند الله، وعظيم أثره على العبد فهو دورة إيمانية مكثفة يربي الله فيها العبد على طاعته ومحبته ورضاه، وثمرة هذه الدورة هي حصول العبد المؤمن على صفة المتقين التي ختم الله بها آية الصيام فقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (سورة البقرة:183).
فالغاية التي يريدنا الله أن نصل إليها بالصيام، هي أن نكون أتقياء وهي أسمى مرتبة يصل إليها العبد المؤمن، فيجعل بينه وبين الله وقاية من غضبه وسخطه وعذابه وتتمثل في فعل الطاعات وترك المنهيات طمعا في رضى الله، وغالبا ما تذكر التقوى بعد الواجبات لتكون حافزا للعمل أو قبلها لتكون حافزا لترك ما يخالفها ، قال تعالى: [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون] (سورة الحجر: 45)، وقال أيضا: [ َفٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ ] (سورة البقرة، الآية :24).
ولا تحصل التقوى الا بترك الشهوات والمنكرات والانغماس بفعل الطاعات لله وحدها.
جميعنا نعلم أن شهر رمضان هو شهر مبارك، تتنزل فيه الرحمات، وتغفر فيه الزلات، وترفع الدرجات، وتضاعف الحسنات، فكيف اغتنمه؟
فكيف نستعد لرمضان؟
أي مشروع ناجح يبدأ بالتخطيط الناجح له، ونجاحك في رمضان القادم مرتبط بمدى استعدادك وتخطيطك لكيفية استثمار هذا الشهر الفضيل، فهو موسم يزورنا كل عام ويرحل، هو يشحن إيمانك لعام كامل ويردك إلى الطريق القويم لذلك عليك الاستعداد له من الآن لتستفيد من كل ثانية فيه.
ومما يتميز به رمضان أنه يدفعك لتنظيم وقتك بشكل تلقائي، فثبات وقت السحور والإفطار يجعل يومك أكثر قابلية للتنظيم، وتستطيع بذلك إدارة ساعات اليوم بشكل مرن.
الخطوات العملية للاستعداد لهذا الشهر الكريم:
- تهيئة القلب كما يجب، واستحضار النية الصادقة، والعزيمة القوية على اغتنام هذا الموسم بطاعة الله تعالى، ولا يكفي استحضار النية بل عدِّد النوايا لتتعدد الحسنات والخيرات وتتضاعف الأجور.
فقل في نفسك: أنوي صيام رمضان لأنه ركن من أركان الإسلام وأنا أمتثل أمر الله فيه وأطيعه في صيامي لهذا الشهر الفضيل، أنوي صيامه لأنه جُنّةٌ من النار، ووقاية وستر لي يوم القيامة ،قال عليه الصلاة والسلام : «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ»[2]، ـ أنوي صيامه لأدخل الجنة مع الصائمين من باب الريان، عَنِ النبي ﷺ قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون)[3]، أنوي صيامه لأنه من أشرف العبادات، ولأن الله جعل الجزاء منه مباشرة، فكل عمل ابن أدم له إلا الصوم فانه لي وأنا أجزي به ، لأن الإخلاص يتجلّى في تلك العبادة أكثر من غيرها في كونها سرّاً بين العبد وربّه؛ فلا يعلم أحدٌ بصيام العبد سوى ربّه المُطّلع على عباده، وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن ربه «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» [4].
قل في نفسك أني أنوي صيامه لأنه كفارة للمعاصي والذنوب، روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبه[5]، قل في نفسك أنوي صيامه لأبلغ مرتبة المتقين، أنوي صيامه لتكون لي دعوة لا ترد حين أفطر.
أنوي الصوم ليكون خلوف فمي أطيب عند الله من ريح المسك، ففي البخاري وغيره “ولَخُلوفُ فَمِ الصَّائمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ[6].
- الاكثار من الدعاء والإلحاح في أوقات الإجابة، لعل الله أن يبلغك رمضان وأنت في صحة وعافية، وأن يوفقك لطاعته فيه على الوجه الذي يرضاه، لأن الدعاء سلاح المؤمن ودافع البلاء وموجب العطاء، [ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] سورة غافر، الآية : 60.
- صم أياما من شعبان حتى يكون لك تدريبا وتهيئة على صيام شهر رمضان، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام، «أبي سلمة، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله ﷺ فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام. ويفطر حتى نقول: قد أفطر. ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان. كان يصوم شعبان كله. كان يصوم شعبان إلا قليلا»[7]
- ضع لك جدولا زمنيا يوميا تملؤه بالطاعات والعبادات منذ أن تصبح إلى أن تُمسي: برنامج تستغل فيه رمضان كما يجب كالورد القرآني، مراجعة لما تحفظ ، قراءة في كتب سيرة أو كتب الرقاق والمواعظ إلقاء موعظة وعبرة لأسرتك وأطفالك عن شهر الصيام أو عن سيرة خير الأنام …
- التوبة الصادقة وبتخلية القلب من أدران الذنوب والآثام وتحليته بالإيمان وفعل الطاعات
- الإكثار من الاستغفار لتستقبل رمضان بصحيفة بيضاء، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [135] أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135- 136]
- التسامح والعفو لأن البغضاء تفسد القلب وتتعب النفس وتجلب الغم ﵟرَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ﵞ [الحشر: 10] قال تعالى وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] سورة النور: الآية :22، فالمحبة دليل صفاء القلوب وشعار المؤمنين الصادقين واستعجال لنعيم الجنة.
- أعزم من الآن على التغيّر في رمضان، فإن رمضان فَتحٌ من الله تعالى يَفتحه على من اختص من عباده وهومن أكبر مواسم الطاعة في العام وليكن شعارك، وعجلت إليك رب لترضى، قال ابن القيم – رحمه الله : ” إن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت، والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك [8]
- لاتنس قيام الليل، لعظيم فضله وأثره على المؤمن، فالمحافظونَ على صلاة قيام اللّيل مُحسنونَ مُستحقّون لرحمة الله وجنّته، فقد مدح الله أهل قيام اللّيل وعدَّهم في جملة عباده الأبرار، فقال عزَّ وَجَل: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا] سورة الفرقان، الآية: 64.
- الحرص على حفظ اللسان من اللغو والغيبة والنميمة، وتجديد محاسبة النفس.
- وأخيراً: الحرص على مجاهدة النفس على حسن الخلُق، وضبط النفس عند الغضب، والتحلي بأكرم الأخلاق، ففي مسند أحمد:” إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم [9]، وعدَّ النبي عليه الصلاة والسلام حُسن الخلق من كمال الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام:” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا” [10]
- الاستعداد الجيد يضمن لك بإذن الله حسن الأداء في رمضان على الوجه الذي يرضاه الله، فميزان الابتلاء في رمضان لصالحك لأن الله يضعف ميزان الشر بسلسلة الشياطين، ويغلب على الكون الخير فلا يفوتكم هذا الخير العميم، وكما يقول الإمام ابن رجب رحمه الله «لمَّا سُلْسِلَ الشَّيطانُ في شهرِ رمضانَ وخَمَدَتْ نيرانُ الشَّهواتِ بالصِّيامِ؛ انْعَزَلَ سلطانُ الهوى، وصارَتِ الدَّولةُ لحاكمِ العقلِ بالعدلِ، فلم يَبْقَ للعاصي عذرٌ» [11].
فبادر بالطاعات، وترك المنكرات، وتكفير السيئات، لتكون من المقبولين والفائزين برضوان الله ونعيمه، فملايين العصاة تابوا في رمضان…عشرات البلدان فتحت في رمضان…ملايين النفوس المتشاحنة تصافت في رمضان… رمضان ميدان الإصلاح والولادة من جديد، فلا تحرم نفسك من نفحات هذا الشهر لكسل أو لهو أو غفلة.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولا تجعلنا من الغافلين والحمد لله رب العالمين.