إذا كان بعض المتصوفة قديما قد انحرف في فهمه إلى منزلق التهاون بالتكاليف الشرعية الظاهرة، بحجة أن الدين حقيقة وشريعة أو علم ظاهر وعلم باطن. وأن الحقيقة (علم الباطن) هي ساس التدين، والعبادة الظاهرة إنما وضعت للوصول إليها، فمتى ما ارتقى مقام السالك إلى الحقيقة صارت العبادة الظاهرة بالنسبة له رسوما هو في غنى عنها ! إذا كان بعض المتصوفة قد وقع في هذا الفهم المعوج الغريب، فإن اتجاها آخر كان على العكس منهم، فحصر التدين في مجموعة من الأشكال والطقوس الخالية من التدبر والتفكر ومن معاني الإيمان العميقة. وأهل هذا الاتجاه الأعرج والنظر التبسيطي هم الذين يطلق عليهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “أصحاب التدين المغشوش” !
ولئن كان تهافت قول الصوفية في مسألة الحقيقة والشريعة واضحا، ولا يخفى ما يتضمنه من تعطيل ضمني للتكاليف الشرعية، فإن قول “أصحاب التدين المغشوش” لا يخفى تهافته هو الآخر ولا يخفى ما يحويه من تجاهل للعبادة الباطنة ومن هدر لتراتبية الأحكام الشرعية.
وقول الصوفية؛ رغم ما يتضمنه من غلو يصل إلى حد الإلحاد في آيات الله، إلا أنه فيه شيء من الصواب. فمنطلقهم بالتفريق بين الحقيقة والشريعة منطلق سليم، ولكن النتيجة التي بنوها على ذلك نتجة عرجاء، هي من تلبيس الشياطين.
ومن له أدنى معرفة بالشريعة يدرك أن القلب هو جوهو الإنسان، وهو مناط التكليف الأول، وأن صلاح كل التكاليف الشرعية مربوط بصلاح القلب، “يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”(سورة الشعراء). “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”(رواه البخاري ومسلم).
بيد أن هذه الحقيقة لا تتنافى مع حقيقة أخرى، وهي أن صلاح القلب مرتبط بأداء التكاليف والعبادة الظاهرة، “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”(سورة المطففين). تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأى قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأى قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء”(رواه مسلم).
فالتكاليف الشرعية الظاهرة لا يقول بعدم أهميتها إلا زنديق مماحك. غير أن تحويل التدين إلى لحية طويلة ومسواك من الآراك، وثوب قصير، ونقاب على وجه المرأة، ووجه عبوس وجبين مقطب، وإلزام عامة المسلمين بآراء فقهية وكلامية معينة، فيه الكثير من السطحية والتبسيط، والتجني على حقائق الإسلام.
لا يعني هذا التنقيص من أهمية الاهتمام بتلك الشعائر والمظاهر الدينية أو القدح في الذين يهتمون بها، ولكنه تنبيه على أن جعل تلك الشعائر هي غاية التدين وهي كل شيء فيه، والاهتمام المبالغ فيه بها على حساب قضايا أخرى هي أهم منها وأكثر ألحية خطأ محض، وهو عين التدين المغشوش.
بل إن هذا النوع من التدين المتجهم العبوس الذي يرى في الابتسامة والمرح وخفة الظل شيء متناف مع التدين، والذي يحصر الدين في اجتهادات فقهية وكلامية محددة متناسقة مع مزاج معين –قد لا يكون مزاجا سويا-، هذا اللون من التدين ينتج العقد النفسية ويورث التكلف والوساوس والبعد عن البساطة؛ لأنه بطبعه مناقض للفطرة مناف لسماحة الإسلام ويسره. ولربما تكون وراء بعض مظاهر هذا التدين شهوات نفسية خفية، كما اكتشف ذلك الفقيه المالكي القاضي عياض بن موسى رحمه الله، فقال –في أثناء حديث له عن حكم اللحية-: “وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها وجزها”(شرح النووي على صحيح مسلم، ج3 ص151).
والذي لا يتأمل كلام الفقيه قد يتسرع، ويتهمه بأنه يقدح في أهل التسنن والاتباع، ولكن الذي يتأمل كلامه، ويقف عند كلمة “الشهرة” يدرك أن هناك دوافع نفسية، قد تدفع الإنسان إلى تعظيم لحيته أو تقصير ثوبه أو… لا من أجل الإتباع بل من أجل التباهي ومراءات الأتباع !
وكان الجيل الإسلامي الأول (جيل الصحابة رضوان الله عليهم) سمحا في أخلاقه ومعاملاته، يميل إلى الانسجام مع مقتضى الفطرة وليس في حياته مكان للتكلف، مع جد وصلابة في الحق في وقتها وفي محلها. عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: “لم يكن أصحاب رسول الله ﷺ متحزقين ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون”(رواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في المصنف وحسنه الألباني).
وقد يكون الإنسان في طبعه ذا مزاج منقبض غير مرح ولا منبسط، ويميل إلا الجد الصارم في كل أوقاته، فلا نلومه على ذلك؛ رغم ما فيه من مخالفة لطبيعة النفس المعتدلة. ولكن ليس له أن يصبغ تعاليم الإسلام بمزاجه المتعكر أو أن يسعى إلى حمل الناس على طبيعته الجافة الجافية.
إن الإسلام منهاج حياة شامل متكامل، يخاطب قلب الإنسان وعقله، ويعنى بتهذيب شكله ومظهره بما ينسجم مع مقتضى الفطرة وحقائق الإيمان. ومحاولة حصره في مظاهر معينة من الشعائر الدينية أو تغليف تعاليمه بمزاج فرد أو مجموعة –قد لا يكون مزاجهم سويا- لا يقل في خطورته عن قول الصوفية بالحقيقة والشريعة.
وهذا النوع من الأفكار هو صانع التخلف والتراجع الحضاري، وهو أحد مشاكل أمتنا الكبرى وأمراضها النفسية والفكرية التي أثقلت كاهلها. ولا بد من غربلة الفكر الدعوي والتربوي وتنقيته من هذا الشكل من الأفكار والتصورات السقيمة.