منذ البداية كان كل ما يجول في نفوس المسلمين أن يستولوا على قافلة قريش التجارية العائدة من الشام، كان هدفهم مبررا تماما لأسباب كثيرة فقريش أخرجت المهاجرين من أرضهم ودورهم وأهلهم، وصادرت تجارتهم وأعمالهم وأموالهم كما ورد في قصة صهيب الرومي، فكان المهاجرون بعد الهجرة يعانون من شظف العيش. أما الأنصار الذين آووا ونصروا وآزروا فقد أشركوا المهاجرين في دورهم وأموالهم ليتوزع شظف العيش على أهل المدينة من المهاجرين والأنصار. والمجتمع المسلم الناشئ في المدينة يعاني من تدهور الحالة الاقتصادية، والاستيلاء على قافلة تجارية لقريش يمثل خروجا ولو مؤقتا من الأزمة الطاحنة. هنا يتدخل القرآن الكريم ليعدل الهدف ويوحده ويصوبه، فهدف الجهاد في سبيل الله هو إعلاء كلمة الله أولا وأخيرا، وإن كانت كافة الأهداف الأخرى مشروعة لكنها يجب أن تنمحي أمام الهدف الأعلى الكبير والغاية الكبرى. ومنذ الكلمة الأولى في سورة الأنفال يأتي التوجيه القرآني الحاسم مدويا: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال:1)، ليزيح فكرة الأنفال وهدف الأنفال عن المشهد تماما منذ اللحظة الأولى للاستعداد لمعركة الفرقان، المعركة التي تفرق بين الحق والباطل، وليستقر في ضمير المسلم المجاهد أن جهاده كله خالصا لوجه الله الكريم محتسبا الأجر في الآخرة، هذا البيان القرآني الحاسم تم توجيهه لمجموعة من العرب نشأوا وتربوا في بيئة عربية قبلية، وكانوا منذ فترة يسيرة قبل إسلامهم، تقوم ثقافتهم البيئية وعرفهم الاجتماعي العام على الغزو على القبائل الأخرى، واغتنام أسلابهم وأخذ نساءهم جواري وأبناءهم عبيدا لهم، فإذا بالقرآن يرفع العربي المسلم فوق مادية الواقع المعاش، ويجعل غزوه كله من أجل الله وحده لا شريك له! إنها نقلة هائلة ومسيرة شاسعة للانتقال من عالم الهمجية الجاهلي إلى عالم الحق القرآني النبيل، ومن دنيا السلب والنهب إلى الحياة المدنية القائمة على الحق والعدل لا على البطش والقوة، والخاضعة كلها لغاية واحدة هي إرضاء المولى عز وجل. ويستمر السياق القرآني في تحديد الهدف وتصويبه، فيقول تعال: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ*لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال7-8 )، إن النفوس الإنسانية تركن إلى اختيار الأيسر والأقل مشقة، لكن الله تعالى يريد لعباده علو الهمة، وسمو الغاية، لأن القضية المحورية هي قضية الإيمان في مواجهة الكفر. ثم ينتظر المتلقي للسياق القرآني الكريم أربعين آية كاملة تتناول شروط الإيمان والتقوى، وتشرح ظروف المعركة، وتؤدب المجاهدين بالآداب الإيمانية للقتال في سبيل الله، قبل أن يأذن المولى عز وجل بتوزيع الغنائم بقوله تعالى: { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال:41).

إنما النصر من عند الله

يجعل المولى عز وجل النصر كله من عند الله جل في علاه، وما على المؤمن إلا اتخاذ كافة الأسباب المؤدية إلى النصر، وأعظمها تحقيق الإيمان بالله، فيمتن على المسلمين بقوله: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ( آل عمران:123)، ويقول تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:10)، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:17)، ينقل القرآن الكريم غزوة بدر كلها من عالم الواقع إلى عالم ما وراء الواقع، من عالم الأسباب إلى عالم أبعد عن الأسباب، من دنيا المحسوس إلى عالم آخر غير مرأي، فالمعركة كاملة يديرها المولى عز وجل من فوق سبع سماوات، فهو تعالى الذي دبر بأقداره القاهرة كل مراحل وخطوات المعركة: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الأنفال42-43. السياق القرآني كله يرجع الإدارة كاملة للمولى عز وجل، بينما المؤمنين الذين يتحركون على الأرض ما هم إلا ستارا لقدرة الله القوي القاهر، فالنصر من عند الله وفعل قتل المشركين تم بإرادة الله، ورمي الجنود إنما هو ستار لرمي الله، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين يوقعه الله تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} ( الأنفال: 12)، إن هذه المعية التامة من الله سبحانه تتحقق بشرطين، شرط تمام الإيمان بقدرة الله العلية، والتوكل عليه والارتكان عليه، والتبرؤ من كل حول إلا حوله ومن كل قوة إلا قوته، وتحقيق الذلة الكاملة والخشوع المطلق لله وحده لا شريك له، فهو المدبر الذي لا يداني تدبيره تدبير، وشرط استنفاد كافة الأسباب وفق الوسع والطاقة تحقيقا لأمره تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60).