مما ذكر في كتب التاريخ أن قريشاً في الجاهلية حرَّموا سُكْنَى مكة، وكانوا يعظِّمون أن يبنوا بها بيتاً، وكانوا يكونون بها نهاراً، فإذا جاء الليل خرجوا إلى الحِل، ولا يستحلُّون الجناية بمكة، فأذن لهم “قُصَي” أن يبنوا في الحرم، ومما أثر عنهم أيضاً أنهم كانوا لا يدخلون الكعبة بحذاءٍ – يعظمون ذلك – ويضعون نعالهم تحت الدرجة، وأول من خلع الخُفَّ والنعل فلم يدخل بهما الوليد بن المغيرة إعظاماً لها، فجرى ذلك سُنة، ومن تعظيمهم للكعبة المشرفة كما ذكره الإمام الأزرقي: أن الناس كانوا يبنون بيوتهم مدورةً تعظيماً للكعبة، فأول من بنى بيتاً مربعاً “حميد بن زهير”، فقالت قريش: “ربَّعَ حميدٌ بيتا.. إما حياةً وإما موتا”.. هذه من صور تعظيم مكة المكرمة التي وقعت في عهد الجاهلية، وهي نابعةٌ من تقدير العرب لها وإجلالهم للكعبة المشرفة والبيت الحرام.
وعزَّز الإسلام مكانة البيت وتعظيمه في النفوس، فجاءت الآيات الكريمة في التنويه إلى تلكم المكانة {وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنا}، {إن أول بيتٍ وُضِعَ للناس لَلَّذي بِبَكَّةَ مباركاً وهدىً للعالمين}، {إنما أمرتُ أن أعبد ربَّ هذه البلدة الذي حرَّمها..}، وجاءت التوجيهات الإلهية بتعظيم شعائر الله والتي من أوجبها وآكدها تعظيم هذا البلد الحرام: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب}.. قال ابن عمر: (أعظم الشعائر البيت)، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابعٌ لتعظيم الله سبحانه وإجلاله، فالمراد بالتعظيم: هو التقدير والإجلال الذي ينبعث من القلب لأمرٍ ما حِسِّيَّاً كان أو معنويَّاً، فالتعظيم يعني إجلالَ المعظَّم وتقديرَه وإظهار تميّزه عن غيره.
وكان سلفنا الصالح يقدِّرون حرمة البيت، ويعظمونه في نفوسهم تعظيماً عجيباً، حتى إن منهم من تحرَّج من سكنى مكة خشية الوقوع في المعاصي، قال ابن رجب: وكان جماعةٌ من الصحابة يتَّقون سُكْنَى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، وقال: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لأن أخطِئَ سبعين خطيئةً – يعني بغير مكة – أحب إلى من أن أخطئ خطيئةً واحدةً بمكة).
بُنيَ هذا البيت لغايةٍ قصوى، ولمهمةٍ كبرى، هي عبادة الله عزَّ وجلَّ بكل ما أذن الله فيه، وأهم ذلك الطواف، فقد ورد عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: (استكثروا من الطواف بهذا البيت ما استطعتم، من قبل أن يحال بينكم وبينه)، وكل ما عدا ذلك من سلوكياتٍ تجافي هذا الهدف الجليل، هي في الواقع خلاف التعظيم الذي أمرنا به وأودع في نفوس عباد الله، ومما يقتضيه ذلك فعل المأمور، وترك المنهي عنه؛ وكذلك رعاية الذوق والأدب العام؛ فالنهي عن التفل تجاه القبلة – مثلاً – هو من قبيل التربية الذائقة حتى يصبح سلوك المرء في أعلى صورةٍ يمكن أن يكون عليها المراعي للحرمات.
لو قدِّر لك زيارة بيت الله الحرام، والتمتع برؤية ضيوف الرحمن طائفين حول الكعبة الغراء، لرأيتَ عجباً.. على مدار الوقت فلاشاتٌ وامضةٌ من كل حدبٍ وصوب، وكأنك في قاعة مؤتمرٍ صحفيٍّ أمام مصورين يلتقطون الصور لكبار المسؤولين رجاء أن تحظى بها صحائفهم، أو أمام نصبٍ تذكاريٍّ تلتقط له الصور للذكرى والتسلية، ولستَ أمام طائفين يؤدون عبادةً مجردةً من كل ما يشوبها من آثام أو إخلالٍ بكمالها وجمالها وجلالها.
لستُ محرِّماً لذلك الأمر أو التصرف، وإنما أتحدث هنا عن الإقبال بكمال الإجلال في مكانٍ هو مظنة سكب العبرات والتأوُّه والمسكنة والتذلل والخشوع والخضوع ورفع الحاجات لرب البريات، لا الانشغال عن ذلكم المقام العظيم بالتقاط الصور والتباهي بها، مما هو متاحٌ في وقتٍ آخر ومبثوثٌ في كل موطن.
بيت الله الحرام موطنٌ عظيمٌ لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، لما فيه من معاني العبودية ومظاهر الربانية وكونه محل مضاعفة الحسنات والثواب، وقد أثمر ذلك في واقع سلفنا الصالح خشيةً وخوفاً من جليل المقام والمقام الجليل، أختم بإيراد نزرٍ يسيرٍ منها للتأمل ومقارنة الحال ومعرفة كيفية الإقبال، وليعرف الفرق بين إقبال الأبدان وإقبال القلوب، وبين الحركات والكلمات التي يفعلها أحدنا بلا شعورٍ ولا إحساس، فنذهب ونرجع بذات النفس لا يتغير منها شيء، وبين ما كانوا يعودون به من قلوبٍ تقية وأفئدةٍ زكية وأبدانٍ طاهرةٍ نقية.
قال عبدالمجيد بن أبي رَوَّاد رحمه الله: “كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين كأنَّ على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نُسُكٍ وعبادة”!، وقال وهيب بن الورد رحمه الله: “لقيتُ امرأةً في الطواف وهي تقول بصوتٍ حزين: إلهي ذهبتِ اللذات، وبقيت التَّبِعات، يا ربِّ مالك عقوبةٌ إلا النار، أما في عَفْوِكَ ما يَسَعُني؟”، وكان شريح رحمه الله إذا أحرم كأنه حيّةٌ صماء من كثرة الصمت والتأمل، والإطراق لله عزَّ وجل.