لما كان الرسول هو رمز الأمة وهاديها في شؤون دينها إلى ربها، لزم أن يكون قائدها في شؤون دنياها، حتى لا تنفصم عراها وتوهن قواها بالصراع الموهوم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، فالرسول يؤسس شؤون الأمة جميعا بهدى من الكتاب منير كما قال الله تعالى لداود عليه السلام: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ).
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ} وقال رسول الله ﷺ: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي قام نبي» وقال الله تعالى لنبيه محمد ﷺ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، والأنبياء في سياستهم هذه يمتازون بالآتي:
– أنهم لا يعبرون بمواقفهم وسياستهم عن أهوائهم وتصوراتهم الخاصة، بل هم في ذلك منقادون لوحي الله تعالى العليم الخبير بشؤون عباده، قال الله تعالى: {وَمَايَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال الله تعالى } :أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ فما يدعون الناس إليه من مثل وقيم ومبادئ وسلوك عملي؛ ليسوا متأثرين فيه برؤيتهم الشخصية كالزعماء والمصلحين العاديين، ولا بالقصور البشري الذي يعتري أفهام البشر وسلوكهم
ـ أنهم لا يتعاملون مع الحلول الجزئية والمشكلات الجزئية، وإنما يتعاملون مع الجذور الأصلية العميقة، ويبحثون عن مكان الداء لاجتثاثه من أصله، فلا يعالجون المشاكل بمعزل عن مثيلاتها ومسبباتها بل ينظرون إلى الأمور نظرة كلية شاملة واضعين في اعتبارهم طبائع النفوس البشرية
ـ أن الحلول التي يقدمها الرسل ليست حلولا نظرية أو تصورات عقلية مجردة، كما تفعل الفلاسفة، وإنما هي مناهج عملية منزلة من لدن حكيم خبير عليم، بأحوال البشر والمجتمعات البشرية كما قال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ولذلك قدم الرسل نماذج راقية في قيادة المجتمعات إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. وهذا النجاح مكفول لكل من سلك سبيل الأنبياء في هديهم وقيادتهم للأمم.
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).
ـ إن الأنبياء في سياستهم يمثلون القدوة الصالحة لأممهم حيث تتمثل مبادئهم وقيمهم في سلوكهم وسياستهم، فهم يرتفعون عن النقائص والعيوب الشائنة التي تشوب المصلحين العاديين بما فيهم من بذور حب التزعم والسيطرة والاستغلال والتسخير للمصالح الشخصية، وغير ذلك من النقائص، وقد وصف الله رسوله ﷺ مثنيا عليه وعلى المؤمنين بقوله:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).
ـ إن الأنبياء وهم يسوسون شعوبهم لا يجعلون حياتهم منصرفة لمتاع الدنيا أوللالتباس الشديد بالماديات، غافلين عن النواحي الروحية، بل هم في غمرة السياسة يذكّرونهم بالله تعالى، ويربطون قلوب العباد بخالقهم، فتسمو نفوسهم وتصفو قلوبهم وترقى غاياتهم كما قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}.
وقد ترسخت هذه القيم العالية والأهداف السامية، حتى إن صحابة رسول الله ﷺ جعلوها ضمن أهدافهم عند دعوة عباد الله تعالى في الأرض إلى دين الله تعالى، فهذا:(ربعي بن عامر حين دخل على كسرى عظيم الروم، عندما سأله كسرى: من أنتم؟ فأجابه: لقد بعثنا الله تعالى لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام)، ثم إن خلفاء الرسل يخلفونهم في تولي شئون العباد، فيحكمون بمنهج الرسل ويسوسون الناس على سنن من هديهم كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وأولو الأمر هم العلماء والحكام. ولكن الذين يتولون الأمر من بعد الرسول يجب عليهم الالتزام بقواعد الشرع في سياساتهم، وأن يتبعوا سنة الرسول ﷺ في ذلك، كما قال رسول الله ﷺ: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ” ،فطاعة أولي الأمر ليست طاعة مستقلة بل هي تبع لطاعة الرسول ﷺ، ومقيدة بها كما قال رسول الله ﷺ: “على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” .
فالطاعة في مفهوم الإسلام تقوم على أسس ومبادئ وقيم يلتزم بها كل من الحاكم والمحكوم، وليس لحاكم عصمة في أن يفعل ما يشاء أو أن يتفرد بسلطة التشريع باسم النيابة عن الله تعالى، ولا يتحكم في رقاب العباد باسم الوصاية والولاية على الشعب، بل هو مأمور بالمشاورة وأخذ الرأي في القضايا التي تمس جموع الأمة ويلتزم فيها برأي الجماعة ولو كان رأيهم خلافا لرأيه هو كما قال الله تعالى آمرا رسوله عليه الصلاة والسلام:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وقال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم).