قصة تحضرني عن علاقة الموظف والمدير فمنذ بضع سنوات قُدِّر لي أن أجلس مستمعاً إلى رجل أعمال ومحاضر في الإدارة قُدِّم لنا على أنّه قد تمَّ تصنيفه واحداً من خمسين أو مائة شخصية (لا أذكر بالضبط) الأكثر تأثيراً على الشباب في العالم العربي.
المحاضر ذو أسلوب جيد في الإلقاء، وعلى قدر عالٍ من الثقة بالنفس (ربما أكثر من المعدل الطبيعي)… المهم أنّه في معرض حديثه عن الإنتماء إلى مكان العمل ذكر لنا أنّه في أحد الأيام طلب من موظفة في شركته البقاء بعد الدوام لإنهاء بعض الأعمال… فاعتذرت الموظفة، وخرجت في وقت نهاية الدوام العادي تاركة خلفها أعمالاً لم تُنجز…
فما كان منه في اليوم التالي إلا أن أنهى خدماتها وطردها من الشركة… ثم أردف قائلاً: إذا الموظف لم يشعر بمسؤوليته تجاه العمل فعليك أن تتخلى عنه فوراً!
هل الوظيفة عبودية؟
أثار حفيظتي هذا المنطق وهذا التصرف الذي لا يخلو من عنجهية ونظرة فوقية تجاه الموظفين والمُستَخدَمين، والذي قد يُرسِّخ نظرية بعض القائلين بأنّ الوظيفة وجهٌ من وجوه العبودية الحديثة! ولست أوافق – بطبيعة الحال – على هذا الطرح، لأنّ الإنسان الموظف القدير الذي يحترم نفسه سيفرض إحترام الناس له، بما فيهم المسؤولين والمدراء… وهو – أي الموظف – يحصل على أجر لقاء خدماته بموجب عقد يُبرم بينه وبين صاحب العمل أو المدير تُوضَّح فيه الحقوق والواجبات… ثم إنّه يملك خيار فسخ عقد العمل وتقديم استقالته بكل حرية، والبحث عن عمل آخر في مكان آخر…
وأذكر أنني أثناء عملي في أحد المستشفيات الخاصة في الأردن، كانت تأتينا أعداد هائلة من الجرحى والمرضى من عدة دول عربية من أجل العلاج والإجراءات الجراحية… فطلب منا المدير أن نبقى لما بعد نهاية الدوام بسبب ضغط العمل لقاء مكافآت وعدنا بها… وقتها رفضتُ البقاء وأعرضتُ عن تلك المكافآت، وكنت أخرج من الدوام كالمعتاد، حيث أنني فضّلت أخذ حق نفسي في الراحة وتواجدي مع زوجتي وأولادي على كسب المزيد من المال، ولكي أقدر على العودة إلى العمل في صباح اليوم التالي منشرح النفس هادىء البال… فالوظيفة ليست هدفاً بحد ذاتها، وإنما هي وسيلة من أجل كسب الرزق الذي كتبه الله لي، بالإضافة إلى تحقيق ذاتي عبر دور إيجابي لي في المجتمع… لكنني – بطبيعة الحال – لا ألوم أحداً ولا أنكر على زملائي الذين يرضون بالعمل الإضافي، فلكل إنسان الحرية في إختيار ما يناسبه وفقاً لظروفه وقناعاته. كما أنني أشجع على المشاريع الخاصة (بدلاً من أو بالإضافة إلى) الوظيفة.
غريق يعلم السباحة!
نعود إلى صاحبنا المحاضر الذي يُقدَّم للمجتمع على أنه نموذج ناجح وقدوة للشباب (وكان الله في عون هذه المجتمعات العربية وهذا الشباب العربي)!
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل صاحبنا فعلاً مدير أعمال موهوب وناجح ومحبوب؟ ولماذا لم تشعر تلك الموظفة بالرغبة في التضحية بوقتها وجهدها سمعاً وطاعة لمديرها؟ أو لنقل: هل كانت تشعر بالإنتماء إلى تلك الشركة، أي إنها حققت ذاتها فيها وأسعدت نفسها؛ أم إنّها – على عكس ذلك – لم تشعر سوى بالغربة وعدم الأمان، حتى أصبح تقدم الشركة وتراجعها عندها سِيّان؟!
وهكذا يصبح السؤال: ماذا قدّمتَ أيها المدير للموظف لكي تطالبه بالإنتماء والتضحية من أجلك وأجل شركتك؟!
ماذا لو كنتَ مكانه؟!
إنّ المدير الذكي الموفَّق هو الذي ينجح في إدخال شعور الإنتماء إلى مؤسسة العمل في قلوب موظفيه وعقولهم عن طريق بث روح الصداقة والأخوّة، وإضفاء جو الشراكة في الوسط؛ والإهتمام الصادق بالموظفين، والإحتفاء بمجهوداتهم ولو بكلمة طيبة؛ وإعطائهم حقوقهم غير منقوصة؛ وحل مشكلاتهم مهما بدت صغيرة… عندها سيعمل كل موظف وكأنّه صاحب المكان: بأعلى طاقة وأصفى بال؛ ولن يتردد في التضحية من أجل نجاح المؤسسة، لأنه سيعتبره نجاحاً شخصياً له؛ ولن يفكّر أحدٌ في الإستقالة والبحث عن عمل آخر… وهل يستقيل صاحب المكان من مكانه؟