يقول العالم اللغوي الفرنسي أرسين دارمستيتر : إنَّ اللغة أية لغة كانت وفي أية فترة كانت من وجودها في تطور دائم مستمر ، يتنازعها في تطورها هذا عاملان متناقضان تجاهد اللغة في الاحتفاظ بتوازنها بينها وبقدر احتفاظها بهذا التوازن يكتب لها طول العمر بين الناطقين بها وهذان العاملان هما عامل المحافظة من ناحية وعامل التطور من ناحية أخرى.

أما فيما يتصل بعامل المحافظة فإن اللغة بعد أن تصبح قادرة على أداء وظيفتها في التفاهم بين أبناء المجتمع الواحد تتحول في ذلك المجتمع نفسه إلى وسيلة من وسائل الترف مثلها في ذلك مثل الملابس والأطعمة التي بمجرد خروجها من حيِّز الوقاية ضد تقلبات الجو ، أو خطر الجوع ، تصبح عالماً حافلاً بإمكانيات الأَُبهة وامتياز طبقة من الناس على طبقة أخرى أو فرد منهم على غيره فالأزياء الغالية الثمن الكثيرة الزينة والحلي النفيسة والفراء الثمين .. كل ذلك قد خرج عن الاستجابة إلى مطالب ضرورية ، ليكون فناً يقصد لذاته لمجرد المتعة ..

كذلك اللغة مع تقدم الحضارة وتبلور التقاليد وتكوُّن الذوق الجمالي [أدى ذلك إلى عدم اكتفاء الإنسان ] منها بمجرد الفهم والإفهام ، بل راح يتلذذ بالجرس الحسن والصيغة الجميلة ، والتعبير المحكم ، والصورة البيانية الرائعة وأخذ يتذوق ذلك ، ويجذب إليه انتباه أبنائه ومَن يهمه أمرهم مِن ذويه كما أقام الأسواق للشعر والأدب والخطابة وأعطى المتفننين في استعمال اللغة فرصاً نادرة في قيادة المجتمع وحيازة الشرف والمجد والثروة “.

 

أمثلة من تطور الألفاظ دلالياً

1- مفاهيم مجرَّدة : لو حللنا كلمات (عقل ، وروح ، ونفس ) لوجدنا أن معانيها ترجع بالأساس إلى أوضاع حسيِّة . مثلاً عقل ( الذي فحواه نور روحاني تُدرك النفس بِهِ ما لا تُدركه بالحواس ) يعني بالأصل شيئاً ماديَّاً. نقول عَقَلَ البعيرَ ، أي ثنى وَظِيفَهُ معَ ذراعِهِ ، فشدهُما معاً بحبلٍ هو العقل . العقل إذن هو الحبل الذي يُشَدُّ بهِ البعير في وسط ذراعِه ، نقول أيضاً عَقَلَت شعرها أي مشطته ، اعتقل الرمح أي وضَعَه بين ركابه وساقه ، عقل الدواءُ بطنَهُ ، أي أمسكَهُ .

2- المروءة : أصلُها من كلمة المرء ومعناها الرجل المكتمل القوة الحاوي لأبرز المميزات التي يمتاز بها هذا الجنس ، فبينما كلمة (الرجل) بمعناها الأصلي الحسي لا تدل إلا على الشخص الذي يمشي على رجلين لا على أربع ، كانت لفظة المرء تدل زيادةً على ذلك على ما في الرجل من صفات تدعو لاحترامه كالقوة والهمة والحرية والشعور بالواجب ، وقد استعملت في لغات ساميِّة أخرى كالآراميّة والسريانية بمعنى السيّد أو الرجل العظيم ، وكانت تُنطَقُ (مار) فيُقال : مار جرجس ، مار مينا ، مار إلياس ..إلخ .

3- الروح : فأصلها من نفس أصل لفظة الريح ، وهو الهواء ثمَّ النفَس الذي يردده الإنسان في صدره شهيقاً وزفيراً ، وقد سُمِّي كل ما تحمله الريحُ ويمكن أن يشمَّهُ الإنسان عند التنفس رائحة ، وسميَّت الراحة كذلك لأنَّ المتعبَ ، أو المهموم المكروب ، تضيق أنفاسه، فإذا استطاع أن يستنشق الهواء وأنْ يتنفَّسَ الصُعداء ، صَعَدَ الهمُّ مع هذا التنفُّس من صدرهِ ، فأحسَّ بالراحةِ وهكذا يكون قد استراح – وفي اللغة التركيّة يسمُّون الاستراحةَ بين الدروس teneffüs (تنَفُّس) وفي هذا أيضاً دلالة واضحة على التقاط الأنفاس والاستراحة –  ولمَّا كانت الريح لا تلاحَظُ في هبوبها بقدر ما تلاحَظُ بوضوحٍ في الأماكن الشاسعة المنبسطةِ سمي كلُّ شيءٍ واسعٍ فيما بعد أرْوَح ، وسميَّت راحة اليد لاتساعها وانبساطها ، ولما كان تردُّدُ الريح في صدر الإنسان هو أوضح العلامات على أنَّه حي لم يمت ، اشتُقَّ من ذلك لفظ الروح بمعنى سرُّ الحياة المجرَّد المُبهَم في الكائن الحيِّ ، ولاشتقاق الروح من الريح جاء لفظها في القرآن الكريم مستَعملاً مع الفعل نَفَخَ في قوله تعالى : ( ونفخنا فيه من روحنا )

4- النَّفس : فأصلها من مادة التنفُّس أي استنشاق الهواء ومن ذلك استعملت النفْسُ بمعنى الكائن الحيِّ المحتوي على سرِّ الحياةِ ، لأنَّه يتنفَّس .

5- الدِّين : أصلها الحقُّ ، وأمرُ الحاكم الواجب للطاعة. كذلك جاء لفظ (الدَّين) بالفتح اسماً للمال الواجب أداؤه على الإنسان ، أمَّا الدِّين بالكسر فانتقل من معنى الحقِّ وأمر الحاكم إلى معنى الطاعة ، استشهد على ذلك أبو زيد القرشي في مقدمَّةِ (( جمهرة أشعار العرب )) بقول زهير بن أبي سلمى :

لَئِن حَلَلْتَ بِجوٍّ في بني أسَدٍ ….. في دِين عمرو وحالَتْ بيننا فَدَكُ

(في دِين عمرو) أي في طاعة عمرو ،و قال الله تعالى : ( ولا يدينون دينَ الحَقِّ) ، أي لا يُطيعون . ثُمَّ انتقلت إلى معنى القانون ومنه سُمِّي القاضي الديَّان ، لأنَّهُ يقيم القانون بين النَّاس ، ومن ذلك جرت العادة قديماً أن يسمَّى أي بَلَدٍ فيه قاضٍ وشريعةٌ ومحكمةٌ (( مدينة )) ، ولمَّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وأقام فيها أحكام الشريعة الإسلاميِّة وقضى فيها بين الناس بالقرآن سُميَّت المدينة ، ومن هنا جاء اسم الدِّين بكسر الدال وهو مجموع الشرائع التي يُقرُّ لها النَّاسُ بالطاعة ، بعد أن يعتقدوا أنها من عند الله .

6- العقيدة : أصلها من الفعل الثلاثي عَقَدَ وهو أن يربطَ الإنسان عُقدةً في حبلٍ أو قطعةٍ من النسيج ، والعقيدة هي الشيء الثمين الذي يُصَرُّ ويُربط ، وكذلك كان الرجل القديم يعقد خيطاً أو خصلةً من الشعر أو الصُّوفِ ، على أُصبَعه ليتذكر شيئاً هاماً ، ثمَّ استعملت كلمة العقيدة استعمالاً تجريدياً فلسفياً فيما استقر في قلب الإنسان من فكرة دينية يؤمن بها .

7- الشَّرف : وأصلها الارتفاع والنظر إلى الناس والأشياء من فوق ، وسميَّت (الشُّرفَة) في البيت أو القصر كذلك لارتفاعها ولكون الواقف فيها يُشرف ، أي يُطلُّ على ما تحتها ، وانتقل الإشراف مع المحدثين خاصة من هذا المعنى الحسي إلى المعنى التجريدي الفكري ، كالإشراف على البحوث العلمية أو التلاميذ في المدارس ، أو الإشراف الاجتماعي ونحوهما ، ثمَّ تجَّرد المعنى أكثر فأكثر حتى أصبح الشرف هو مجموع صفاتٍ ، بعضها بالنسب وبعضها بالحسب ، تجعل الإنسان ، معنوياً ، في منزلةٍ أرفع من غيره.

8- الجنَّة : أصلها البستان الذي يجري فيه الماء وتنبت فيه ألوان من الأشجار والنبات قال تعالى : ( ودخل جنَّتَه وهو ظالمٌ لنفسه ) ثمَّ استعمل اسماً لدار النعيم المقيم التي يحظى بها في الآخرة الذين رضي الله عنهم .

9- المعروف والمنكر :فمعناهما التجريدي هو الخير والشر ، أمَّا المعنى الحسيّ الماديّ القديم ، فالمعروف ما يعرفه الإنسان والمنكر ما لا يعرفه ، وفي حياة العشائر البدائية كان الإنسان لا يعرف إلا أهله وذوي قرابته وبني قبيلته ، ثم حيواناته الأليفة أما من عداهم فكان يخاف منهم هكذا حتى أصبح المعروف والمنكر مرادفّين للخير والشر تقريباً

10- الصراط : وأصله الكلمة اللاتينية ( starta) ، وهو الطريق الواسع الكبير المستقيم المعبَّد  ، وقد أمدت الكلمة اللاتينية لغات أخرى ، ففي الإنجليزية (streat) و [straight للاستقامة ] والألمانية (strasse) والإيطالية (strada) …

11- الخندق : بالفارسية ( خنده) وكذلك (كنده) بمعنى المحفور.

 


المصدر : اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة ، د. حسن ظاظا