القراءة أحسن وسيلة تحرر عقل الإنسان من الجهل وتهدى له ميدانا فسيحا للتفكر والتدبر. وهي أكبر عملية تؤدّي القارئ إلى أجواء التأملات القيمة. ويمكن تصوّر المعاني في ذهن القارئ من القراءة بل يبلّغ المعاني المتولدة في خاطره إلى عالم القراءات الجديدة. فالقراءة والتفكر مترابطان لا يمكن التفريق بينهما. فالقراءة دون تأمل عمل غير مجد وعبث لا معنى له في الحقيقة. وقد يصحح القارئ معلوماته بجديد مما حصل عليه من قراءته. وهكذا يتأثر القارئ بالقراءة تأثرا بالغا ومن هنا تعتني هذه الدراسة بالقراءة والهدف منها بالنسبة للمؤمن.

اقرأ”…قد تضمن هذا الكلام الذي قاله جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم نورا ينفي الظلم عن العالم والكون وسرّا يرتقي بالإنسان من ثرى الذنوب إلى ثريا الهدى والرحمة. وهو يقدم للإنسان سماء العلوم والأفكار ويساعده على الوصول إلى مكانة مرموقة. وقد اشتمل على الأمور التي يحتاج إليها نجاحه الدنيوي والأخروي. لكن هناك سؤال يطرح نفسه إلينا لماذا ابتدأ القرآن بالأمر بالقراءة؟ وقبل طلب الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التنقيب بالتفصيل عن المراد الحقيق بالقراءة.

كلمة “اقرأ” فعل أمر من مادة “قرأ” وهي تطلق على جمع الشيء كما قال ابن منظور في معجمه “لسان العرب”. فعندما نقرأ  كتابا نجمع بين الحروف بإجراء أعيننا عليها. لكن ليس هذا مجرد الجمع بين الحروف بل تبلغ القراءة إلى أذهاننا حيث تتكون المعاني وتصل أفكارنا إلى عالم جديد.

 وقد مر تعريف القراءة ومفهومها بمراحل متعددة يذكرها الأستاذ المساعد في التربية بجامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا تريفور كايرني (Trevor Cairney) في تتبعه لتطور مفهوم القراءة. تعريف القراءة اعتمد في بادئ الأمر على النظرية المعرفية التي ترى القراءة عملية نقل المعلومات والمعارف. لكن في أواخر الستينات والسبعينات من القرن العشرين ظهرت مجموعة من النظريات المعارضة لنظرية نقل المعلومات السائدة.

وبرز بعض الباحثين من أمثال كين جودمان (Ken Goodman) و فرانك سميث (Frank Smith) الذين طوّرا النظرية التفاعلية (Interactive Theory) التي تتطلب فيها القراءة إلى التفاعل بين المعرفة الموجودة لدى القارئ من جهة، والنص من جهة أخرى بشكل يمكّن القارئ من بناء المعاني. وقد استمرّ التطور في مفهوم القراءة بظهور النظرية التي تقوم على النقل النشط للمعنى (Transactive Theory) وتعتبر هذه النظرية كامتداد النظرية التفاعلية. ولم يمكن الإتيان بتعريف يليق بالقراءة للعلماء لكن عرّفوا بما يفهم من عملية القراءة. ومن أبرز هؤلاء العلماء عالم النفس الأمريكي إندموند بورك هوي (Edmund Burke Huey)، وليامز جري (Williams Grey)، أدوارد ثورندايك (Edward Throndik)، وألدرسون(Alderson). فقد علّق إندموند بورك هوي وأدوارد ثورندايك القراءة بالفكر المنبعث من القارئ. وعرّف ألدرسون القراءة من ناحيتين أولها من جانب العملية ترى أن القراءة بدأها القارئ فوقع عليه التفاعل بين النص وفكره. وأما الجانب الثاني فهو القراءة بوصفها منتجا. المعاني المتصوّرة من قراءة القارئ وسّعت دائرته العلمية وقد تتغير وتُحقق مفاهيمَه.  

ونأخذ معنى “علم” في مجال تطبيق كلمة “قرأ” من معاملاتنا اللغوية اليومية. فقراءة نص تطلق على معرفة نص. وهذا المراد الحقيق الصحيح لعملية القراءة. فإذا فهمنا عن القراءة هكذا فندرك هدف عباد الله بالقراءة. اقرأ، هذا أول أمر نزل من الله على الناس جميعا. ورصد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره أن القراءة سبيل حاصل به على العلم.

قال المفكر الأمريكي وليام جلاسر إن الإنسان يحصل العلم عشرة في المائة من خلال قراءته. لذا يُهدف بالقراءة ما يهدف بالوسائل الحاصلة بها العلوم للإنسان.

قد وهب الله تعالى السمع والبصر لإدراك المعلومات كما قال عز وجل في القرآن المجيد ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ويمكن سبب استخدام الله سبحانه وتعالى كلمة “الأفئدة” بدلا من كلمة “القلب” مفردها فؤاد وهذا من فعل “فَأَد” يطلق على “إنضاج شيء” أي الأمور المكتسبة من السمع الأبصار يحللها القلب ويؤدي إلى تكوين المعاني فيقع بناء المعاني عبر القراءة. ويحدث في الكون عديد من الحوادث في كل حين من الأحيان. وقد تتغير ولم نتوقع وقوعها. فظنّ الناس بأنهم ضعفاء فيبلغوا إلى إلههم. وهكذا، على المسلم من لازم الأمر أن يعلم الله من سمعه وأبصاره. وقد أعطىها الله للإنسان أن يشكره بشكل صحيح كما قال الله في الآية المذكورة. كذلك، يُسئلنّ السمع و البصر الأفئدة في يوم القيامة كما قال الله تعالى في القرآن ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ هكذا، على المؤمن بتغيير قراءته إلى شكل يشكر به لله تعالى.

أمر الله عز وجل بالقراءة في أول نزول القرآن فلا يحدد ما يقرأ الإنسان. وفسّر جمهور المفسّرين الآية ب” اقرأ ما أنزل إليك من ربك مفتتحا بسم الله” كما قال القرطبي في تفسيره. لكن، قال الإمام فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب” في تفسير تلك الآية “اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله” إذا تفكرنا على ما ذكره الرازي نجد أن القرآن أشار إلى طريقة القراءة. أي يمكن للمؤمن ما يشاء قراءته. بل تُجزى على قراءته عندما يجعلها لله تعالى. يجب على المؤمن تقدم قراءته على أصل وحدانية الله وأساس تفهم ضعفه لاكتساب المعلومات. لكن، لماذا قال الله بداية عن القراءة وللإنسان طرق أخرى لاكتساب المعلومات؟ فجوابه القراءة أخص وسيلة له تحصل بها العلوم.


المراجع :

1. عمران أحمد السرطاوي وفؤاد محمد رواش، القراءة: مفهومها، مهارتها، تدريسها، وتقويمها، KACI TRADING SDN. BHD 

2. ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الحادر ببيروت، الطبع الأولى

3.  الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي

4.  دقائق تفسير، لابن تيمية

5.      مفاتيح الغيب، للرازي