نختتم هذه القراءة التربوية الموجزة لرسالة (أيها الولد المحب) بالآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم والتي تضمنتها هذه الرسالة المهمة في تراثنا التربوي الإسلامي،ومن هذه الآداب :

النية في طالب العلم : يوجه الغزالي بصر المتعلم إلى أن تكون نيته لله سبحانه وتعالى،ويذكر ذلك في وصيته – لمتعلمه – قائلا : ” أيها الولد كم من ليال أحييتها بتكرار نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها والمباهاة على الأقران والأمثال فويلك لك ثم ويل لك . وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي ـ ـ وتهذيب أخلاقك وكسر النفس الأمارة بالسوء فطوبى لك”.   ويؤكد الغزالي على الإخلاص الذي يحب أن يكون عليه الطالب / المعلم،ويحدد له مفهوم الإخلاص بقوله ” … والإخلاص، هو أن تكون أعمالك كلها لله تعالى ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ولا تبالي بمذمتهم ”  .

تقدير المعلم : ومما يجب أن يكون عليه حال المتعلم في علاقته بمعلمه هو الاحترام الظاهر والباطن للمعلم، ويؤكد الغزالي ذلك بقوله ” … ومن ساعدته السعادة فوجد شيخاً ـ كما ذكرنا ـ وقبله الشيخ، ينبغي أن يحترمه ظاهراً وباطناً . أما احترام الظاهر فهو أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه،ولا يلقي بين يديه سجادته إلا وقت أداء الصلاة فإذا فرغ يرفعها، ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته، ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعة وطاقته . وأما احترام الباطن فهو أن كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلاً ولا قولاً لئلا يتسم بالنفاق وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق باطنه ظاهره ”  .

تقدير الوقت : يوجه الغزالي ـ المتعلم إلى أهمية عنصر الزمن فيما يقوم به من طلب العلم،فلا يجب أن يضيع وقته فيما لا يفيد،وما لا يحصل من ورائه غايته،فيقول له : ” أيها الولد : من جملة ما نصح به رسول الله ـ ـ أمته : علامة إعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وإن إمرءاً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته … وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم ” .

الصبر : يؤكد – الغزالي – على خصلة مهمة من خصال طالب العلم ألا وهي الصبر حتى يصل إلى ما يريد، فيشير إلى ذلك ـ بقوله : ” أيها الولد : بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان قوله تعالى ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ [الحجرات:5]، واقبل نصيحة العبد الصالح عليه السلام حين قال : ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ [الكهف : 70] ولا تستعجل حتى تبلغ أو أن يكشف لك وتراه،﴿ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ  ﴾[الأنبياء : 37]، فلا تسألني قبل الوقت .

ويقرر الغزالي مرة أخرى البعد العقدي في العملية التعليمية فيرى أن من آداب المتعلم النية في طلب العلم، ولا يحدد الغزالي هنا أي نوع من العلم لأن الأعمال في الإسلام يجب أن يسبقها نية، يقول : ” إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى … “[1]  ، ومعنى ذلك التأكيد على ضرورة ربط العلم بالإيمان والعمل على إنهاء الفصام النكد في المجتمع الإسلامي ــ بين العلم والدين، ويحب أن يراعي نظامنا التربوي ذلك البعد العقدي في كل المناهج والمقررات الدراسية وتعليم المتعلم كيف تكون هذه النية؟ وما هي متطلباتها في الشرع الإسلامي العظيم، وقد انتصرت العقلية الإسلامية عندما التزمت بتطبيق هذا المنهج فكراً وعلماً وسلوكاً، وجعلت أسلوبها في الحياة : الواقعية في التفكير : والإيجابية في التعبير،والحركة الدائبة في كل تصميم وتطوير،وعملية النظرة إلى كل شيء في هذه الدنيا من خلال ربطة بفاطر السماوات والأرض العليم الخبير ” [2] ، ” وتمكنت الحضارة الإسلامية من إبداع الوسائل التي توفرها العلوم الإنسانية والمادية،لبسط الإسلام على الواقع،وتقويم سلوك الناس وإنجازهم الحضاري، لتأتي الحضارة من نضج القيم الإسلامية،وتتوجه الوسائل إلى تحقيق الأهداف، أو الهدف المقصدى للوحي للوصول إلى الإنسان المكرم “[3] .

إن توجيه العواطف والميول والرغبات الداخلية ( النية ) للمتعلمين إلى ما يوافق الشرع هو تربية لهذا الجانب الوجداني في نفس ” المواطن ” الذي يفترض أن يكون ” صالحاً ” للمجتمع، ويحول العلم والتعلم في المجتمع من مجرد شهادة أو وسيلة لكسب مادي إلى عبادة يقوم بها المتعلم تقربا إلى الله سبحانه وتعالى ومن ثم يدرك أن التقصير فيه تقصير في حق الله . وأن الغش والتحايل فيه غش وتحايل على الله سبحانه وتعالى، والنظام التربوي هو الذي يلقي عليه عبء الترسيخ في أذهان المتعلمين تلك النظرة للعلم والتعلم مما يكون له أكبر الأثر في تقليل الهادر التعليمي من الرسوب والتسرب والأمية [4]وتكوين الدافع ( ذو المضمون الديني ) نحو التعلم يجعل المتعلم حريصاً على الوقت الذي يعد من أهم عناصر الحضارة فأي ناتج حضاري كما قال مالك بن نبي = إنسان + تراب + وقت “، ولن تزول قدم الإنسان يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه.

وهذا أدعى إلى أن يشغل النظام التربوي وقت المتعلم داخل المدرسة بما يفيده ويجعله يحصل من الفوائد النظرية والتطبيقية بما يتيح له من ملاحقة الثورة العلمية والمعرفية العالمية والتي تفصلنا بينها عقود طويلة،فالنظام التربوي ” أصبح من الضروري عليه إعادة النظر في نظمه التعليمية بما يتفق وعصر المعلومات سواء تعلق الأمر بالأهداف أو المناهج وطرق التدريس أو المعلم ودورة … بحيث يسهم النظام التعليمي ــ بصورة أساسية ــ في تدريب الطلاب على التعامل مع مصادر المعلومات … بما يتفق والتطورات السريعة في طبيعة المهن في مجال العمل “[5].


[1] صحيح مسلم : يشرح النووي : مج5 رقم (1907) , ( بيروت : دار الخير , ط3 1996م ) ص (48) .

[2] حسن الشرقاوي : ” مصادر العلوم في القرآن الكريم ” , بحث منشور في : نحو فلسفة إسلامية معاصرة , المعهد العالمي للفكر الإسلامي , 1989م , ص (534) .

[3] محمد الفاضل بن عاشور : روح الحضارة الإسلامية , السعودية , الدار العالمية للكتاب الإسلامي , ط2 , 1992م , ص (5).

[4] مها عبد الباقي جويلي ” الدور الأخلاقي للمدرسة في القرن الحادي والعشرون ” , بحث منشور في العولمة ونظام التعليم في الوطن العربي , مرجع سابق , ص (331) .

[5] جمال على الدهشان : مرجع سابق , ص (30) .