كم يُؤلم المسلمَ الغيورَ على المجتمع والأسر كثرةُ الطلاق المُشتِّت للشمل، والمفرِّق للجمع، المفسد للأسر، والمسيء لمستقبل الزوجين والأولاد. ولو ذهبَ كلُّ منا يستقصي أسباب الطلاق لرأى أهمها ينحصرُ فيما يأتي:

1- سوء اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر، وإذا كانت النظريات التربوية ترى أن تربيةَ الطفل تبدأ منذ يُولد أو يدرجُ على الأرض، فالإسلام يرى ذلك يبدأ منذ أن يختارَ كلٌّ من الزوجين الآخر، فإذا كانَ اختياراً سليماً مدروساً على أساس الدين والخُلُق، ومصلحة الأسرة، سلمَ الزواجُ من الخصام والشقاق، واتَّسم بالوئام والوفاق، وإلا آل إلى الخلاف والطلاق «فاظفر بذات الدين تربت يداك»([1]) أي: إن لم تظفر بذات الدين والخُلُق افترقتَ، وخسرتً، وندمت.

والله تعالى الذي قال:

(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) [الملك: 3]

يطالبنا أن نتوخى التناسق والتناسب والتوازن والانسجام بين الزوجين، كما هو في خلق الرحمن في هذا الكون، فقال:

(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187]

والآية في عبارة النص تبيين أن كلاً من الزوجين حصنٌ للآخر، وسبيلُ ستر وعفة، وصيانة.

والآية في إشارة النص تُبيِّن أن التناسبَ والتناسقَ وعدم التفاوت مطلوب بين الزوجين، فاللباس لا يحلو ولا يَليق إلا حينَ يكون مناسباً للجسم متناسقاً معه حجماً وطولاً ولوناً.. فلا بدّ إذاً أن يكونَ بين الزوجين – إن أرادا السعادة ودوامَ الوفاق – انسجامٌ وتناسبٌ وتناسقٌ في السن والجمال، والثقافة والفكر، والحال الاجتماعية والعادات والتقاليد، وهذا في نظري مما يجبُ أن يضاف إلى الكفاءة التي اشترطها كثيرٌ من الفقهاء لاستمرار العقد، فإن لم يراعِ كلٌّ من الزوجين ذلك عند الاختيار فقد يُؤدي إلى الندامة والتراجع، وفسخ العقد قبل الزواج، أو هدمه بالطلاق.

2- الاختلاط بين الجنسين، ولاسيما حين يكون بلا قيود ولا حياء، ولا التزام، أو في أماكن الشبهات والمنكرات في ساحة الفتن والإغراء، وكم من رجل أفسد امرأةً على زوجها، وكم من امرأةٍ أفسدتْ زوجاً على زوجته. لذا فقد أنذرَ الرسول من يفعل مثل هذا في قوله: «إيما امرأة طلبتْ طلاقَها من زوجها دون بأس (سبب مشروع) فحرامٌ عليها رائحة الجنة»([2]). كما هدَّد من تفسد زوجاً وتسبب طلاقه لزوجته ليتزوجها بدلاً من زوجته، وتكفأ إلى صَحْفَتِها ما عندَه من خير، وتحرم من ذلك زوجته وأولاده، هدَّدها بأنها ستُحرم من رائحة الجنة كذلك.

ولذا فقد دعا الله تعالى، وأمر عبادَه رجالاً ونساءً بغض البصر، فهو طريق لحفظ الجسد والنفس من المزالق والهوى، وعلَّلَ ذلك بقوله:

(ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور: 30]

وهي صفة مشبّهة وليست أفعل تفضيل، أي ذلك طهر لهم ونقاء وصيانة وحماية ورعاية، والنفس تميل إلى الأكمل والأجمل والأفضل بدافع الفطرة، فإذا توفَّر غضُّ البصر توفرت القناعة بالحلال، ورضيَ كلٌّ من الزوجين بقرينه دون أن يميلَ إلى غيره، مما يُديم بينهما المودة والرحمة، ويصون الأسرة من الشتات والطلاق.

وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبِكَ يوماً أتعبتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلّه أنتَ قادرٌ عليه ولا عن بَعضِه أنتَ صَابرُ

ولله در من نصحَ فقال:

لا تكثرنَ تأملاً واحبسْ عليك عِنَان طَرْفِك
فلربَّما أرسلتَهُ فرماكَ في مَيْدانِ حَتْفِكَ

3- إهمال كلٍّ من الزوجين واجباته نحوَ الآخر المادية والمعنوية، فبقاء الزوجية بينهما منوطٌ بحسن المعاشرة والتفاهم من كلٍّ للآخر، مع إدخال السرور على قلبه في حدود الشرع والحق، إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.

والعقل يقتضي أن يحاول كل منهما أن يتجدَّد في معاملته وشكله وسلوكه ونظافته وأدبه نحو الأفضل والأكمل، لئلا يحصلَ بينهما ضجرٌ، أو ملل، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: إني لأتزينُ لزوجتي كما تتزينُ لي.

والمرأة في البيت ليست هملاً أو متاعاً، بل إنسان كالرجل تُشاركه وتُشاطره الأفراحَ والأتراح (الأحزان)، والزوج راع ومسؤول عنها، وهي راعية ومسؤولة عنه، وأحبُّ درهمٍ أو دينارٍ إلى الله تعالى هو الذي يُنفقه الرجل على زوجه وأولاده، يُكتب له بذلك الأجر والصلة.

أما الذين يهملون واجباتهم نحو نسائهم، ويقضون نهارَهم وجزءاً كبيراً من الليل خارجَ الدار في جمع حطام الدنيا، والتنافس على متاعها الفاني، حتى إذا عادوا إلى بيوتهم حملوا إليها أكثر أعباء العمل ومشكلاته وهمومه، ينغّصون عيش المرأة والولد، فهم على خطأ وخطر خطير وشر مستطير، فالمودة والرحمة يحتاجان ليدوما إلى تعاطف وتبادل، وقد كان رسول الله   إذا دخل داره يقومُ بحاجة أهله من: أنسٍ وعطفٍ ورعاية وحنان وتعاون ومواساة.

وكان يُحذِّر أصحابَه من إهمال ذلك، لأنَّ بني إسرائيل أهملوا نساءَهم ففعلنَ كذا وكذا. وذكرَ ما لا يليق.

وأمرهم أن يختموا بالمرأة، وأن يُؤدُّوا لها حقوقَها الزوجية المشروعة كاملةً، ليبقى عشُّ الزوجية في سلم وسلام، وآمن وأمان، في ساحة الإيمان والإسلام.

ولقد مدحت امرأةٌ زوجَها الوفي المخلص، فقالت: «زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عرقه كالمسك، ولا يمل طولَ العهد، إذا غضبتُ لطفَ، وإذا مرضتُ عطفَ. أنيسي حين أفرد، وصفوحٌ حين أحقد، إذا دخلَ الدار دخلَ بسَّاماً، وإن خرج خرجَ ضحَّاكاً، ما غضبَ عليَّ مرة ولا حقد، يأكل ما وجد، ويدرك ما قصد، ويفي ما وعدَ، ولا يأسى على ما فقدَ، أديب أريب حسيب نسيب، كسوب خجول، لا كسولٌ ولا ملول، إذا طلبتُ منه أعطاني، وإن سكتُ عنه ابتداني. وإذا رأى مني خيراً ذكرَ ذلك ونشر، أو رأى تقصيراً سترَ ذلك وغفرَ» فطوبى لمن اقتدى واعتبرَ.

4- إهمال تربية الأولاد منذ الصغر على تحمل المسؤولية في الكبر، فالولد يُربَّى على الرجولة والشجاعة الأدبية، وقول الحق ومعرفة حقوق الزوجة والولد، والسعي وراء الرزق، وتحمل أعباء الحياة، والصبر على مصاعبها ومصائبها، والبنت تُربَّى على شؤون البيت والقيام بما تتطلبه الحياة الزوجية بنوعيها القولي والعملي، الأدبي والمادي، وتُعرَّف بحقوق الزوج وأهله وأولاده حتى إذا تزوجت أثبتت جدارةً وكفاءةً، وعاشتْ زوجةً كريمةً مكرمة، وأماً راضيةً مرضية.

أما الدلال والإهمال والتفريط في تربية الولد والبنت في الصغر، والإغضاء عن كل هفوة أو خطأ، أو صغيرة أو كبيرة، منهما، مع التماس الأعذار لهما في كل تفريط أو إفراط، فهو طريق الفساد والإفساد للمجتمع والأسر معاً.

مَن أدَّبَ أولادَه صغراً سُرَّ بهم كباراً.

ومَن أدَّبَ أولادَه أرغم حسَّاده.

والولدُ سِرُّ والديْه، ومرآة تعكس سلوكهما، وما نحلَ والدان ولدَهما أفضل من أدب حسن، والتربية في الصغر سهلة ميسرة، وفي الكبرى أَمْرُها صعب وعسير، فما أصعب فطامَ الكبير، وما أعسرَ رياضة الهرم!

إن الغصونَ إذا قوَّمتَها اعتدلتْ ولا يلينُ إذا قوَّمتَه الخَشَبُ
إذا المرءُ أعيتهُ المروءةُ ناشئاً فمطلبُها كهلاً عليه عسيرُ

وحين يشبُّ الفتى والفتاة على الدلال والإهمال والتفريط بالواجب، وعلى التماس والديهم الأعذار لأخطائهم دون توجيه أو إرشاد أو تقويم، فهما في الحياة الزوجية على شفا جرف هارٍ؛ لأن الحياة الزوجية مسؤولية كبيرة على الزوجين معاً، فإما العناء والشقاء، وهو لهما إرهاق، وإما الخصام والشقاق؛ اللذان يؤديان غالباً إلى الطلاق.

ويؤسفني أن أقول: إن الوالدين المهملين لتربية ولديهما الذكر والأنثى في الصِّغَر، يقفان في الكبر بجانب الباطل حين يتخاصمُ ولدهُما مع زوجته، أو ابنتهما مع زوجها، ويُدافعان عن ولدهما إن ظلمَ أو ابنتهما إن أهملت، وينكران الحق الذي مع الجانب الآخر، ويلتمسان لتفريط وإهمال ولديهما الأعذار السخيفة، كما فعلا ذلك في الصغر، وغالباً ما يتخلَّى الأب عن دوره الأساس في الموضوع لزوجته، فهي تقرر مصيرَ ولدها مع زوجتِهِ أو ابنتها مع زوجها، فتصرُّ على رأيها وتقفُ بجانب ولدها أو ابنتها ولو كانا على ظلم وباطل، فيقع الطلاق ومن بعده الخسارة والندامة، لأن الرجل تخلَّى عن قِوامته للمرأة في الأمور المهمة، التي تحتاج إلى رؤية وإنصاف ووعي ودراسة، وإلى قول فيصل عادل. وللعرب مثالٌ يصدق على هذا، هو قولهم في مثل ذلك «استنوق الجملُ» أي: صارَ الجملُ ناقة، فهل يعقلُ الرجالُ هذا ليحرصوا على قوامتهم، والرجولة الحق والإنصاف في الأمور والعدل فيها، دون التأثر بعاطفة أو فتنة؟

5- بعد الزوجين عن منهج الله تعالى، وأرى أن كل خلاف يجري بين أمة وأمة أو أسرة وأسرة أو فرد وآخر، كبر الخلاف أو صغر، إنما مرجعه إلى البعد عن منهج الله وشريعته.

ولو أن أياً من الخصمين صدرَ عن شرع الله وتبعه الآخر في ذلك، لزال كل خلاف وخصام وكذلك الزوجان: لو شربَ كلُّ منهما من نبع الشريعة الصافي لاتفقا في كل شيء، وسلما من كل خلاف أو شقاق، ولعل هذا بعض ما عناه الله تعالى في قوله:

(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]

فالرجوعُ إلى حكم الله ورسوله في كل أمر والرضا به سبيل للخير وسلامة العاقبة والأمر:

(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]

وأذكر في هذا المجال أن صحفية مصرية سألت أحد السادة العلماء عن أسباب الجنوح عند الناس والجيل الجديد، وسبيل الخلاص من ذلك؟ فكتبَ إليها يقول:

اعلمي رعاكِ الله أن الناسَ والشبابَ والشاباتِ، لا يُمكن أن يجتنبوا الآثام والمعاصي والإجرام، إلا إذا آمنوا بالله العليم العلاَّم، وعلموا أن هذا حلال وهذا حرام، وامتثلوا أوامر الله تعالى من الولادة إلى الحِمام (الموت) وعاشوا في ساحة الإيمان والإحسان والإسلام، وإليكِ مني ألفَ تحية وسلام».


([1])  رواه البخاري ومسلم.

([2])  رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.