تقود الجامعات – في كل دول العالم – قاطرة النهضة والتقدم في مختلف المجالات والعلوم، سواء التطبيقية أو الإنسانية، لما تضمه من خيرة العقول سواء من الأساتذة أو الطلاب علي حد سواء.. ولهذا فإن لهذه الجامعات دورا في حفظ تراث الأمة، وجعله ركيزة النهوض لما يمثله من قاعدة أو جذر تستند إليها الأمة في انطلاقها من الماضي إلي المستقبل لتحسين أوضاعها في الحاضر.
لكن عملية مقاربة التراث العربي والإسلامي داخل تلك الجامعات قد اكتنفتها عوائق كثيرة، حيث اعترف أكاديميون لـ “إسلام اون لاين” أن عدم ارتباط الطالب بالمكتبات والبحث، إضافة للمستوى المتدني لبعض أساتذة الجامعات على مستوى تعاملهم مع التراث، وأيضا ما أسموه حالة العزلة بين الجماهير وبين التراث لغة وإدراكا، كلها أسباب أدت لوجود ازمة في التعامل معه داخل اروقة الجامعات العربية والإسلامية..
لا بد من الاعتراف
في البداية يؤكد الدكتور محمود فهمي حجازي العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية، أنه لابد من الاعتراف بوجود تقصير من الجامعات في القيام بدورها الذي تأمله الأمة في حفظ التراث واتخاذه وسيلة للانطلاق إلى المستقبل، وإذا كانت هناك جهود مشكورة قام بها البعض في مختلف الجامعات إلا أنه اقل من تطلعات الأمة..
عدم ارتباط الطالب بالمكتبات والبحث، إضافة للمستوى المتدني لبعض أساتذة الجامعات أهم عوائق التعامل مع التراث بجامعاتنا
ويدلل حجازي قائلا: الواقع خير شاهد حيث يغلب على الجامعات أسلوب الحفظ والتلقين امتدادا لنظام التعليم قبل الجامعي ، وعدم ربط الطلاب بالبحث في المكتبات والاطلاع على أمهات كتب التراث ، ثم قيام طلاب الدراسات العليا بتحقيقها.
ويوضح عضو مجمع الخالدين أن أصل كلمة ” تراث ” في اللغة من مادة ” ورث ” التي تعني لدى العامة “ما يتركه الإنسان لمن بعده ” أو بمعنى آخر ” ما تركه السلف للخلف ” وقد اجتهد الكثيرون في تعريف التراث تعريفا علميا لعل ابسطها أنه هو السجل الكامل للنشاط الإنساني في مجتمع ما على مدى زمني طويل، وما تم حفظه في الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب من خلال التراكم التاريخي الطويل، مما يسهم في تشكيل هوية المجتمع وخصوصيته مما يميزه من الروحيات والماديات عن غيره من المجتمعات..
ويعقب على هذه التعريفات قائلا: وكل تلك التعريفات تؤكد على ضرورة تواصل الجهد الإنساني، فكما ترك السلف للخلف، لا بد وأن يتعامل الخلف مع هذه التركة معاملة تصونها وتزيدها ألقا وتجعل منها قاعدة انطلاق حقيقي لتكتمل منظومة الجهد البشري، وهو للأسف ما نفتقده بصورة مؤسسية في جامعاتنا..
ويرى عميد آداب القاهرة الأسبق أن شمولية هذا التراث لكل المجالات الحياتية سواء كانت مادية وروحية من خلال المخطوطات والذخائر العلمية والأدبية، ليفرض جهدا متنوعا بين نشر وتحقيق ودراسة.
ويستدرك حجازي قائلا: لكن الصورة ليست سوداء تماما، وإنما هناك بوادر صحوة لدى بعض الطلاب والمعلمين والأكاديميين النابهين، الذين يهتمون بتحقيق النصوص التراثية ونشرها، وهناك كذلك دعوات تنطلق من حين لآخر لتعاون المؤسسات الجامعية والعلمية والثقافية والإعلامية في ذلك بشكل منظم ومدروس، بعيدا عن العشوائية التي تهدد تراث الأمة وحاضرها ومستقبلها بسبب غياب الأولويات.
أحذر من أن يكون التيسير المطلوب في تقريب التراث للطلاب تشويهاً منظماً، أو تخريباً مقصوداً له
وفي نهاية حديثه حذر حجازي من أن يكون التيسير المطلوب في تقريب التراث للأمة، وخاصة طلابها في المدارس والجامعات تشويهاً منظماً، أو تخريباً مقصوداً للتراث؛ لأن هذه جريمة لا تغتفر.. نظرا لأنها تؤدي إلي ضياع الوحدة الثقافية للأمة، ويقوي عوامل التشتت والتمزق الذي يصل لدرجة الإحساس بالضياع وفقدان الهوية، وزيادة حدة الفصام بين ماضي الأمة وحاضرها.
إستراتيجية النهوض
وفي السياق نفسه يشير الدكتور جعفر عبد السلام ، الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية ، إلى أن تراث أي أمة هو المعبر عن الهوية الثقافية لها، ودونه تضعف وتضمحل حتى تتفكك داخلياً، وبقدر اعتزاز الأمة بتراثها وحمايتها له وحفاظها عليه تكون نهضتها، والعكس صحيح..
ومتحسرا يقول الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية: نظرة واحدة على واقع طلاب الجامعات المصرية والعربية يجعلك تتأسى.. حيث لا يعرف غالبيتهم شيئا ذا قيمة عن تراثه إلا القشور فقط ، وحتى من يعرف لا يعتز به بالشكل الكافي ، لأنه لم ير المعلم القدوة الذي يغرس في نفسه عشق وحب تراثه ويجعله يؤمن أنه من لا ماضي له فليس له حاضر ولا مستقبل..
ويتابع: على العكس من ذلك نجد الجامعات الإسرائيلية تحاول تضخيم تراثها وربط شعبها – وليس طلابها فقط – بهذا التراث الذي غالبيته مفتعل ومزور، فضلا عن اعتزازها باللغة العبرية التي كانت مواتا قبل عشرات السنين، فجعلوها لغة للبحث والدراسة فضلا عن حث الشعب علي تعلمها والاعتزاز بها أما نحن فنهمل تراثنا العريق الذي يعد أعظم تراث إنساني.
وعن دور المؤسسات الثقافية والتعليمية في عملية نقل التراث إلى الأجيال المعاصرة قال عبد السلام: هذه العملية ليست سهلة بل إن هناك العديد من المخاطر التي تواجهها، مثل احتمال التحريف المتعمد للقيم التراثية بسبب الغزو الثقافي الذي تعرضت له أرض العروبة والإسلام، مما أدي إلى إحلال قيم ثقافية جديدة تتصل بالحضارة الغربية ولا ترتكز إطلاقاً على جذورنا الثقافية.
التحريف المتعمد للقيم التراثية بسبب الغزو الثقافي اخطر ما يواجه عملية نقل التراث إلى الأجيال المعاصرة
وكشف عبد السلام عن تبني رابطة الجامعات الإسلامية إستراتيجية متكاملة للحفاظ علي تراث الأمة وتحقيقه وربطه بحاضرها ومستقبلها وخاصة أنها تضم 170 جامعة عربية وإسلامية، يتم العمل بكل جد علي تطوير مناهجها بحيث تزيد فيها جرعة تدريس التراث بوسائل مبتكرة، والاستفادة من التقدم العلمي من جانب ، وكذلك دراسة تجارب الجامعات في الدول الكبرى وكيفية عنايتها بالتراث، وكذلك دعم التعاون والتكامل بين جامعاتنا العربية والاسلامية..
وختم عبد السلام قائلا: نحن نؤمن أن ثمار تلك الأعمال في الحفاظ على التراث وإعادته لواجهة العملية التعليمية بصورة صحيحة لن تكون بين يوم وليلة، بل إن تحقيق ما نطمح إليه من قيام الأمة بواجبها تجاه تراثها سيستغرق وقتا..
تراث عريق
أما الدكتور محمد غنيم عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، فيؤكد أنه لا يوجد أمة لها تراث ممتد مثل التراث الإسلامي، سواء من حيث الامتداد التاريخي حيث يبلغ عمره 14 قرنا من الزمان، وكذلك الامتداد الجغرافي في مختلف قارات العالم حيث انتشرت الفتوحات الإسلامية، وترك العرب والمسلمون بصمات تراثية واضحة في كل مكان وصلوا إليه، بل أنهم تمكنوا من صهر تراث حضارات الأمم التي فتحوها في تراثهم، مما أدى إلى حفظ هذا التراث الإنساني غير الإسلامي لارتباطه بتراث العرب والمسلمين..
أطالب الأكاديميين في مختلف المؤسسات العمل علي كسر العزلة بين الجماهير والتراث من خلال تيسيره
ولذا طالب الدكتور محمد غنيم الأكاديميين في مختلف المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية العمل علي كسر العزلة بين الجماهير التراث من خلال تيسيره، قائلا: ليس من المعقول أن نطالب عامة الناس بالارتفاع بمستواهم وحثهم علي التعامل مع التراث، في الوقت الذي نجد فيه معظم الأكاديميين يهملونه ولا يهتمون به، بل لا يعتزون بلغته أصلا!!
ودلل غنيم قائل: معظم المحاضرات في الكليات الأدبية المتخصصة لا تُلقى باللغة العربية الفصحى بل باللغة العامية، وكذلك فإن معظم المحاضرات في الكليات التطبيقية أو العلمية تلقي باللغات الأجنبية مما يجعل الطلاب عرضة للتمزق بين العامية واللغات الأجنبية.
وينهي عميد كلية اللغة العربية بجامعة الازهر كلامه متحديا أن يستطيع 10% من طلاب الجامعات العربية الحديث باللغة العربية الفصحى نصف ساعة بلا خطأ نحوي، مؤكدا أن غالبيتهم لن يستطيع أن يتحدث بها أصلا، في حين أنه يتحدث اللغة العامية وبعض اللغات الأجنبية بيسر وأريحية تامة دون عناء… حسب تعبيره.