إن من ألطاف الله بعباده أن يرسل عليهم البلاء حتى يختبرهم ويمحص صبرهم ويظهر الصابرين منهم والثابتين. فقليلي الإيمان والمعرفة بالله يصيبهم السخط والضجر، وهؤلاء لا يرون حكمة الله في أقداره وما يخفيه من ألطاف بهم خلف ستار الإبتلاء. وكثيرا ما يصيبنا هذا الضجر، ولكن ما أن تمر بنا الأيام حتى تظهر لنا الحِكّم التي كانت في هذا البلاء.
فمن ألطافه تعالى أن يبتليك بأن يجعل أمرك في يد لئيم لا خُلق له ولا رحمة، فيذيقك مرائر الخسة والذل، ويجر عليك من الألم والضيق ما لا يعلم به إلا الله. فتدعو الله ليل ونهار أن يجعل ثأرك على من ظلمك وينصرك على من عاداك. ثم يمر الوقت ويفرجها الله بشكل أو بآخر. فتتفكر يوم ما كانت الحكمة في الإبتلاء بحكم هذا اللئيم …. ثم يشرح الله صدرك إلى أنه ما ابتلاك به إلا ليجعلك تعرف قيمة من حولك وتلتفت لطيبتهم وحسن أخلاقهم. فتحسن معاملتهم وتخلص في برهم وأداء حقوقهم عن صدق وطيب قلب.

ومن ألطافه أن يصيبك بالحزن والأسى على فقدان عرض من الدنيا ثم تمر الأيام وتريك أن ما فقدته كان سيجر عليك من الحزن والألم ما لا تعلم. ومن ذلك مثل الطالب الذي لم يحصل مجموع يدخله الكلية التي يريد، ثم يضطر لدخول أخرى، فيجد فيها ضالته وسعادته.

ومن ألطافه أن يحرمك من المال فتجد السعادة في رزقك القليل وتجري فيه البركة والكفاية والرضى. ثم يرزقك من بعدها مالا في آخر عمرك فتعرف مرارة الفقر وحاجة الفقراء لما مررت به من قبل من فقر وفاقة، فيشجعك ذلك على الإنفاق في سبيله عن طيب خاطر. حيث أنك تشعر بما يمر به المحتاجين من ضيق وعوز وحاجة. فتنال الأجر العظيم والفضل الذي لا ينتهي. قال : (لا حسدَ إلا في اثنتينِ رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فسلَّطَه على هلكتِه في الحقِّ وآخرُ آتاه اللهُ حكمةً فهو يقضي بها ويعلمُها) .

ومن ألطافه أن يحرمك الصحة، ويمرضك مرضاً تتمنى الموت معه، ثم تهب عليك نسمات الرحمة والشفاء. فتعرفك قيمة الحياة ونعمة الصحة. فلا تضيع بعدها وقتاً أو تهدر صحة ونعمة. وتستغل ما بقي من عمرك في العمل لآخرتك. وطوبي لمن فاق وعرف ما له وما عليه قبل فوات الأوان. قال تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

ومن ألطافه أن ينزل عليك حزنا بفقد جاهك وبيتك، وتضيق عليك الدنيا بما رحبت، ثم يأتيك الفرج بعد اليأس والفرح بعد الترح. فترى الحياة بعدها بعين الرضي ويجري الشكر على لسانك والابتسامة على محياك بعد أن كان لا ترضيك الدنيا بما فيها ولا جبل أحد ذهباً.

ومن ألطافه أن يأخذ حبيبك وصفيك من الناس … وينطفئ نور الحياة وتظلم الأرض بأحزانها، ثم تأتي أيام سوداء كئيبة بألم الفقد وشدة الحزن. وبعد دهر طال أو قصر تجد أن كل شيء عاد للهدوء والسكينة، وتقبلت نفسك فقد الحبيب والقريب، ورجعت لممارسة حياتك كما كانت مع شيء من القوة والتحفظ والحكمة والنضوج. فتجد أن مدرسة الحياة علمتك أن الإنسان مهما مرت به الأحزان، لابد وأن يستمر ويعاود الوقوف ليستطيع مواصلة السير إلى مثواه ومبتغاه. فكلكم ميسر لما خلق له واليسر يأتي معه التيسير.

ومن ألطافه أن يحرجك أمام الخلق بعجز أو جهل أو غباء، فيضحك الناس عليك أو يجر عليك نظرات الشفقة والسخرية … فتنكسر نفسك وتشعر بالذل والخذلان والفضيحة … فتنطوي على نفسك تحاول مواساتها ومعالجتها … ربما بقرآن أو دعاء ومناجاة أو نوم … كل شخص تعلمه الحياة كيف يعالج دواخل نفسه وأحزانها وكيف يعيدها صحيحة بما يكفي لمواصلة مسيرة الحياة والسير في سراديبها وتحمُّل ترهاتها وظلماتها والتمتع بنسماتها وأنوارها. فيتعافى بعدها ويرجع قويا صحيحا ويجد في تحسين نفسه ومهاراته … فيعلم أن ما مر به كان خير له ودر عليه من العلم والبركة ما لم يكن ليحصله لولا ذلك البلاء.

ومن ألطافه أن يصرف عنك عرض من الدنيا فيتبين لك فيما بعد أنه ما كان إلا بلاء أو ابتلاء لما رأيت سوئه. كالمرأة التي تقدم لها شخص أحبته ولكن لم يرد الله أن يتم ذلك … فيقسم لها من هو خير وأبر … وترى في حال من تزوجته التعاسة والشقاء. فتعرف أن حزنها عليه لم يكن سوى دواء مر يشفيها من سقيم المحبة ويخرجها من سطوة المشاعر وذلها إلى نور العقل وأمانه ويبعد عنها تعاسة الحياة وشقاء العمر الذي كانت ستعيشه مع ذلك الشخص … ثم ترى فيمن رزقها الله به الأمن والأمان والراحة والسلامة وطيبة القلب والحنان … فتحمد الله بأن كشف الغمة وأزال الضرر بحكمته وحفظها من نفسها بفضله وجوده. قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة : 216) .

ومن ألطافه أن تفقد وظيفة كنت تحبها وتحزن عليها كثيرا … كانت تدر عليك المال وتسعد فيها بمنصب وجاه ورفقة مرحة وزملاء وأصدقاء … ثم تُظلَم من مديرك أو زميلك … ظلماً يُدمي قلبك ويُفقدك وظيفتك وتَدمع عينيك عليها … ثم تمر عليك أوقات دون مال ولا وظيفة ولا صديق ولا صفي يواسيك ويسأل عنك في محنتك … فتلجئك تلك الأيام الصعبة والمحنة التي تمر بها إلى طرق باب الله والتقرب إليه والبكاء عنده ليكشف محنتك وتناجيه كل يوم وتمر الأيام ويزداد قربك من الله وإيمانك وتصير مناجاتك هي الدواء الذي يسكن جروحك ويبرد حرارة الحزن وشدة الألم فتنتظر صلاتك في انصاف الليالي وتجد لذة المناجاة وحلاوة الخلوة مع الله قبل الفجر ويتقد نور الإيمان في قلبك فتجد للحياة طعم ألذ من طعم الوظيفة والجاه والمال … وتنتبه للذة الحب وشوق العاشقين وتسلك مدارج السالكين … فترى الخير الذي جنيته من فقدك لتلك الوظيفة وما جرته لك من خيري الدنيا والآخرة ومن فرح القلب وطمآنينته ورضاه ما لا تستعيض عنه بمال الدنيا ولا جاهها. فمن عرف السعادة في حب ربه لم يبدلها بعرض من العروض ولا ببدل من البدائل.

ومن ألطافه أن يحرمك من الولد، ثم يرزقك به بعد صبر سنين، فتفرح بقدومه وتصير الدنيا جنة في عينيك وتنشغل به فيشغلك عمن أعطاك … ثم يحرمك منه بموته … فتحزن ويعتصر قلبك وتبكي عليه حزنا وألما. ثم تمر السنين ولا تزال تذكره … ولكن قد برأ الزمن من جرح فقده الكثير … ويعلمك الشيب أن لا شيء يستحق الحزن الذي لا ينتهي … فالكل سينتهي وتنتهي معه الدنيا ولا يبقى منها سوى ما كان فيها من عمل … والكل راجع إليه وملاقٍ حسابه وملاقيه … فلا حزن ينفع أو يرجع فقيد فُقد أو حبيب مات … ولا حبيب يدوم لحبيبه. وما بعد رثاء عليٍ – رضي الله عنه – لفاطمة الزهراء قول.

والقصص لا تنتهي والبراهين واضحة بألطافه بنا. فهو أرحم بنا من أمهاتنا وهو الرحمن الرحيم. والفطن من البشر من يتأمل في أقداره فيمتلأ قلبه شيء فشيء بمحبته وتعظيم ذاته وجلاله ومعرفة حكمته ورحماته التي وسعت كل شيء. فليصبر المؤمن وليحتسب كل ما يحصل له في الدنيا، فالله سيسرها له إن صبر وسيريه عجائب حكمته وعظيم قدره. قال تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح : 5)، ثم أكَّد عليها بقوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 6). وليبشر المؤمن بصبره على ما يصيبه من مصائب من مرض وموت وفقر وألم وحزن وفقد … وليتيقن أن الله سيجازيه عليه خير الجزاء. قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 155- 156) .

وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالحمد لله على ألطافه في أقداره التي لا لا تُعَّد ولا تحصى ولا تنتهي … الحكيم الخبير اللطيف الكريم … المانع الضار … الهادي الرشيد الصبور الحسيب المقسط الجامع الحسيب الجليل … مالك الملك ذي الجلال والإكرام.