قال تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } (السجدة: 5)

التدبيرات الإلهية عجيبة لمن أراد أن يتأملها، بها ينهي الله مصيبة، أو بها تتهيأ أرضية لبعث جديد، يصلح العباد والبلاد، لاحظها في قصص موسى – عليه السلام – مع فرعون، أو قصص صناديد قريش مع النبي – – وكيف تحولوا لمجرمين عتاة، أهلكوا الحرث والنسل. ثم لاحظ التدبيرات الإلهية كذلك مع سيف الدين قطز ومجرمي المغول، والأمثلة أكثر مما يمكن حصرها هاهنا..

لكن إليك بعض التفصيلات

أبرز قصص موسى – عليه السلام – يوم أن ألقته أمه في النيل رضيعاً، ليلتقطه آل فرعون فيصنعه الله كما يشاء في عقر دار جبار من جبابرة البشر، الذي تولى أمر تربية ورعاية الرضيع نزولاً عند رغبة زوجته آسية، رغم كراهيته للأمر، غير راغب فيه البتة. لكن التدبير الإلهي يقضي عليه أن يتربى الرضيع في قصر ذلك الجبار لحين من الدهر، كي يؤدي بعد أن يكبر، مهمة معينة ضمن مهام عديدة كتبها الله عليه، تمثلت إحداها في وضع حد لفساد وظلم فرعون في وقت محدد لا يتغير، وقد كان.

جرت التدبيرات الإلهية خطوة بخطوة حتى جاءت اللحظة المنتظرة، ومن بعد أن جاوز موسى – عليه السلام – ومعه بنو إسرائيل البحر – كما جاء في تفسير ابن كثير – حيث أراد موسى – عليه السلام – أن يضربه بعصاه ليعود كما كان، كي يصير حائلاً بينهم وبين فرعون، فلا يصل إليهم. فأمره الله أن يتركه على حاله رهواً أو ساكناً، وبشّره في الوقت ذاته بأن فرعون وجنده مُغرقون فيه. فكان ذلك الحدث العظيم، الذي يصوم المسلمون شكراً لله كل عام، من التدبير الإلهي الذي استدرج فرعون وجنوده خطوة بعد أخرى، لنهاية ذليلة يستحقونها في عاجلتهم قبل آخرتهم.

ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد

من ضمن أمثلة التدابير الإلهية أن رتب الله نهاية غلاة الكفر ومجرمي قريش، أبي جهل وأمية والنضر وعقبة وغيرهم، في يوم لم يخطط له لا المسلمون ولا الكفار. حيث يخرج النبي – – يطلب قافلة قريش ليس أكثر، ليصل الخبر إلى أبي سفيان، فيطلب النجدة من مكة، وفي الأثناء تفلت القافلة ويخسرها المسلمون، لتزول بحسب المنطق، أسباب نشوب حرب. لكن التقديرات والتدبيرات الإلهية تقضي أن يعاند أبو جهل كل حكماء وعقلاء قريش، ويتجه بهم للمكان والزمان المدبّر من الحكيم العليم، ثم تقع معركة بدر الفاصلة، وخلاص العباد والبلاد من ظلم مجرمي قريش.

قاهر المغول من خوارزم

تستمر التدبيرات الإلهية لنجدها مع سيف الدين قطز وقصته مع المغول، الذين أهلكوا الحرث والنسل وعاثوا في ديار المسلمين فساداً لم يسبق له مثيل، فكانوا بلاء عظيماً على الأمة، أو ربما عقاباً قاسياً لها على التفرق والاختلاف، فاستحقت ذلك الابتلاء الشديد الأليم. لكن ولأن هذه الأمة لا تستمر على باطل وسرعان ما تعود إلى الحق، جرت تدبيرات إلهية لتصحيح الأوضاع.

المغول منذ ظهورهم وهم غارقون في القتل والنهب والأسر والهدم. يصلون ضمن طريقهم إلى دولة خوارزم، فيقتلون رجالها ويسبون نساءها ويأسرون بعض أطفالها. لا شفقة ولا رحمة ولا أخلاق أو شيء من نبل المحاربين والفرسان تضبط أعمالهم وتصرفاتهم. دولة همجية انطلقت من أقصى شمال الصين لتنطلق نحو الخارج، تنشر ثقافة الموت والهدم والخراب، وتعاند البناء والصناعة والحياة.

هكذا الأمر استمر سنين عجافاً على ضحايا المغول، إلى أن يشاء الله، وبحسب التدبيرات الإلهية، يتم أسر طفل من أطفال ملوك خوارزم لا يتم قتله كآلاف الأطفال، ولكن يتم بيعه في دمشق وأكل ثمنه، لينتقل من سيد إلى آخر. وفيما الأيدي تتناقله من هذا البيت إلى ذاك، يقع أخيراً في يد عز الدين أيبك، أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر، ليعود قطز تارة أخرى إلى الأجواء والبيوت الملكية، كما عاشها فترة من الزمن في خوارزم، حيث خاله هو القائد العظيم جلال الدين بن علاء الدين الخوارزمي، الذي أذاق المغول في بدايات عهدهم مع جنكيز خان، الكثير من الهزائم، حتى حدث ما حدث وانهيار دولة خوارزم.

وا إسلاماه في عين جالوت

تبدأ فترة التدبير الإلهي لقطز، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، إذ إن اسم قطز يعود أصله إلى اللغة المغولية ويعني «الكلب الشرس» الذي لا يمكن ترويضه. فكانت حياته مع عز الدين أيبك، بداية رعاية وصناعة قائد، سيكون له شأن في قادم الأيام بحسب الترتيب والتدبير الإلهي، وستكون نهاية التتار المجرمين على يده، كما كانت نهاية المجرم فرعون على يد موسى عليه السلام، ونهاية أبي جهل، فرعون هذه الأمة، على يد (رويعي الغنم)، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

مما يروى أن قطز أخبر أحد المقربين عنده، أنه رأى النبي – – يبشره بمُلك مصر وهزيمة المغول. ولم يكن غريباً أن يرى الرسول الكريم – – في منامه، فقد اشتهر بالصلاح والتقوى والعفاف، والمواظبة على الصلاة والصيام ومجالسة وحب العلماء، والابتعاد عن الصغائر والشبهات. وهكذا كان ينشأ ويتطور ليصل إلى اللحظة الحاسمة بمعية فاعلة مؤثرة من سلطان العلماء، العز بن عبد السلام، لتكون معركة عين جالوت الفاصلة هي المحطة النهائية لدولة الدمار والخراب، بعد أن عادت الأمة إلى ربها ودينها، وحققت معايير نزول الدعم والنصر الإلهي، فكان الحسم المنتظر في كل العالم الإسلامي. أما المغول فقد بدأ التراجع والانكسار التدريجي لدولتهم حتى انتهت من التاريخ إلى غير رجعة.

أزال قطز بلاء عظيماً عن أمة الإسلام وفق تدبير إلهي محكم، بعد أن تربى بطريقة معينة لتنفيذ مهمة محددة كانت هي الأبرز في حياته، إذ لم يلبث أن مات مقتولاً بعدها، من بعد أن تناسى قاهرو المغول دينهم وتعاليمه سريعاً، فوقع الخلاف والشقاق وحدث ما حدث في دول الإسلام، لتبدأ دورة جديدة للأمة المسلمة من الابتعاد التدريجي عن دينها، لتصطدم ببلاء جديد يتجدد وتمثل في حروب أهل الصليب ما بين تراجع وانحسار، ثم عودة وانتصار، وهكذا دواليك، أو هكذا حال الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.