من مظاهر هشاشة التكوين الجامعي في العالم العربي الإسلامي، حين نجد طالبا جامعيا لا يحذق فن المحاججة ومهارات الإقناع، ولا يتقن أصول وقواعد الحوار والتواصل، بل همّه الأكبر أن ينال الشهادة الجامعية، لذا يتخرج الطلبة من الجامعة وهم رُقود الهمّة والإرادة والمعرفة، وقليل من يفطن لحالته ويفيق من غفلته لمعرفة حقيقة مسالك طلب العلم والحكمة، لأن كل مثقف أو طالب علم له واجبات نحو أمته، والطالب الجامعي ينبغي أن يكون مثقفا مستنيرا بفكره وسلوكه، ومفهوم المثقف هنا، “كلمة آتية من تثقيف الرمح وهو تقويم قناته بغمزها وتشذيب زوائدها الناتئة وإزالة الإعوجاج من كعوبها، ويقولون للغلام المتدرب على اللعب بالسلاح وعلى الرمي بالحراب والتلاعب بالرماح، غلام مثاقف وهو وصف قريب الصلة بكلمة التثقيف، فالمثقف هو الرجل المهذب المستنير الفكر المجوهر العقل المستقل الفكر في الحكم على الأشياء، الجاري في تفكيره على قواعد المنطق لا على أس التخريف المطلع على ما يمكن من شؤون العالم وتاريخه، الملم بجانب من معارف عصره”[1].

إذن مهمة الطالب والباحث هو إزالة إعوجاج الفكر، وترييض عقله على قواعد المنطق، وتهذيب نفسه بالقيم الأخلاقية، حتى يسموا لمرتبة الطالب الجامع للحكمة والقيمة، نجد من وصايا أبي حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين يقول” أيها الطالب للعلوم والناظر في التصانيف والمستشرف على كلام الناس وكتب الحكمة ليكن نظرك فيما تنظر فيه بالله ولله وفي الله، لأنه إن لم يكن نظرك به وكلك إلى نفسك أو إلى من جعلت نظرك به أيا كان غيره من فهم أو علم أو حفظ أو إمام متبع أو صحة ميز أو ماشاء كل ذلك، وكذلك إن لم يكن نظرك له فقد صار علمك لغيره ونكصت على عقبيك وخسرت في الدارين صفقتك، وعاد كل هول عليك …ورؤية غيره دونه تعمى القلب وتهتك الستر وتحجب اللب، وإذا نظرت في كلام أحد من الناس ممن قد شهر بعلم فلا تنظره بازدراء كمن يستغنى عنه في الظاهر وله إليه كثير حاجة في الباطن وله إليه كثير حاجة في الباطن، ولاتقف به حيث وقف به كلامك، فالمعاني أوسع من العبارات، والصدور أفسح من الكتب المؤلفات، وكثير علم مما لم يعبر منه… وليكن تحسين النظر أغلب عليك فيه حتى يزول الإشكال عنك بما تتيقن من معانيه، وإذا رأيت له حسنة وسيئة فانشر الحسنة واطلب المعاذير للسيئة، ولا تكن كالذبابة تنزل على أقذر ماتجده، ولا تعجل على أحد بالتخطئة فربما عاد عليك ذلك وأنت لاتشعر، فلكل عالم عورة وله في بعض ما يأتى به احتجاج “[2].

ويقول أيضا أن أصناف العلماء ثلاثة” حجة، وحجاج، ومحجوج، فالحجة: عالم بالله وبأمره وبآياته مهتما بالخشية لله سبحانه وتعالى، والورع في الدين والزهد في الدنيا والإيثار لله عز وجل المستقيم، والحجاح: مدفوع إلى إقامة الحجة وإطفاء نار البدعة قد أخرس المتكلمين وأفحم المتخرصين، برهانه ساطع، وبيانه قاطع، وحفظه ماينازع شواهده بينه ونجومه نيرة، قد حمى صراط الله المستقيم، والمحجوج: عالم بالله وبأمره وبآياته، ولكنه فقد الخشية لله برؤيته لنفسه، وحجبه عن الورع والزهد والرغبة والحرص، وبعده من بركات علمه محبة العلو والشرف، وخوف السقوط والفقر، فهو عبد لعبيد الدنيا، خادم لخدمها، مفتون بعد علمه، مغتر بعد معرفته، مخذول بعد نصرته، شأنه الاحتقار لنعم الله، والازدراء لأوليائه، والاستخلاف بالجهال من عباده، وفخره بلقاء أميره وصلة سلطانه، وطاعة القاضي والوزير والحاجب له قد أهلك نفسه حين لم ينتفع  بعلمه والاتباع له …[3].

إذن فالمثقف و الفيلسوف إمّا أن يكون حجّاجا أو محجوجا، أي إما أن يطفئ نار البدع ببرهانه وحجته وبقوله للحق، وإما أن يكون محجوبا عن الحق  ومسجونا في قفص الدنيا عابدا لشهواتها وملذاتها.

فما يجب أن تقوم به الجامعة في العالم العربي الإسلامي هي أن تُدَرِّس طلبتها أصول وقواعد الحجاج في كل التخصصات العلمية أو الأدبية، أو إدراجه كمنهج أساسي في السنوات الأولى الجامعية ليس فقط في العلوم الإنسانية والإجتماعية بل في سائر التخصصات العلمية، فالحجاج أداة منهجية لها قواعدها وأصولها وأخلاقياتها، إذ يعتبر الحجاج (largumentation) تداول خطابي بالحجج، يقع بين طرفين على الأقل، أحدهما يحتل منصب الـمُحْتَجِّ =المدعي والآخر منصب الـمُحتَج له =المـدعو وللتداول الخطابي بالحجج مستويان: مستوى الممارسة – ممارسة الحجاج –ومستوى الدرس – درس الحجاج – والمستويان متكاملان إذ الحجاج الفعلي الممارس ماهو إلا تطبيق لجملة من تقنيات تقويم التدليل ، والتعرف على هذه التقنيات التقويمية لايتم إلا داخل الأبحاث المنطقية الدراسة لـ “الحجاج” و”المناظرة” “[4]