{يقولون هل لنا من الأمر من شىء قل إن الأمر كله لله} [آل عمران: ١٥٤]

 قرئت بقراءتين متواترتين ” كُلَّهُ” بالنصب توكيدا للأمر، وبالرفع” كُلُّهُ” على الابتداء، وقد اكتفى السادة المفسرون في مدونتهم التفسيرية في توجيه القراءتين من جانب الإعراب النحوي المجرد، وكذلك فعل علماء القراءات قديما، فلم أقف لأحد منهم على  توجيه بياني لهذا التنوع العجيب للحركة الإعرابية، و لا شكّ أنّ الإعراب خادم للمعنى.

وذهب بعضهم إلى ترجيح قراءة النصب  على قراءة الرفع، كما فعل ابن عطية في المحرر؛ وتعقبه أبو حيان في البحر بعدم المفاضلة بالترجيح بين القراءتين؛ لأنهما متواترتان، وهو ملمح لطيف عند أبي حيان في موقفه من عدم المفاضلة بين القراءات المتواترة، وإليه مال ابن عثيمين في تفسيره.

لكنهم لم يشيروا إلى التوجيه البياني الإعجازي في تكامل المعنى من إيجاز اللفظ في تنوع القراءات.

ولم أجد من وقف على ذلك أيضا  من المحدثين، الذين أقاموا دراسات في التوجيه البلاغي للقراءات، نحو ” التوجيه البلاغي للقراءات د. أحمد سعد، والوجوه البلاغية في توجيه القراءات القرآنية. د محمد الجمل، والإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية د أحمد الخراط. والإعجاز في القراءات القرآنية والجمع بينها د. محمد سنبل، والدلالات البلاغية للوجوه النحوية في القراءات د أحمد فتح الله، والمعنى القرآني في ضوء اختلاف القراءات د أحمد سعد الخطيب،  واختلاف الحالة الإعرابية في القراءات د جمال عبد العظيم، وقد عني هذا الأخير بتحليل الحالات الإعرابية في توجيه القراءات السبع في المواضع المختلفة، إلا أنه تجاوز الحديث عن هذا الموضع، وكأنه لم يهتد إلى دقائق توجيه المعنى فيه.

والذي يبدو لي – والله أعلم – أنَّ قراءة النصب ” كلَّه” بالنصب على الإتباع بالتوكيد؛ تؤكد هذا الأمر الذي كان سبب نزول الآية من تذمر المنافقين على سبيل الإنكار “هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ” فتكون ” ال” في الأمر للعهد الذكري في السياق، أوالذهني إشارة لواقعة النزول من معركة أحد، في قوله تعالى:  “قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ ” مما حصل لهم من قتل وتأخر النصر كل ذلك مرده لقدر الله، المعلل بسننه الكونية والقدرية؛ الداخل ضمن حكمة الابتلاء والتمحيص، وتمايز الصفوف، واتخاذ الشهداء، وظهور المخذلين من المنافقين، وكشف حقيقتهم وفضحهم.

وأضافت قراءة القطع على الاستئناف بالابتداء ” إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلُّهُۥ لِلَّهِۗ” دلالة عموم الأمر الكوني والأمر الشرعي، في كل زمان ومكان، مرد ذلك كلُّه لله، وناسب ذلك دلالة الجملة الاسمية هنا ” كُلُّهُ للهِ” على الثبوت والاستمرار والاستقرار. وتكون  ” ال” في الأمر؛ لاستغراق الجنس وشموله وعمومه.

وهذا من دلالات إحكام النظم القرآني، في تكامل المعنى في القراءتين؛ في إيجاز وإعجاز.