ذكر القرآن الكريم فضل العلم وأهله في آيات كثيرة، ترفع من مكانة العلم وأهله، ومن هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ [فاطر: 28]، وهذه الآية وقعت في خاتمة بيان أنواع العلوم العملية الطبيعية، للدلالة على وحدانية الله تعالى، واستحقاقه للعبودية المحضة، وتنزيهه عن الشرك والتشبيه، وقدرته المطلقة على الإبداع والخلق بالألوان والأجناس المختلفة، فأشاد بالعلماء المدركين لهذه العلوم وغاياتها الذين يبعثهم العلم على خشية الله ومخافته، لأن العلم النافع يصاحبه العمل الصالح.

 قال الزحيلي: هذا دليل آخر على وحدانية الله وقدرته من مشاهد الكون المختلفة الأجناس والألوان، ضمنه أن العلماء في العلوم الكونية أقدر الناس على إدراك عظمة الكون. فيكونون هم أخشى الناس لله، ثم أردفه ببيان حال العلماء العاملين بكتاب الله، فهم الذين يرجون ثواب الله على طاعتهم.

ويقول ابن عاشور: إنما يخشى الله من عباده أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم، فجملة إنما يخشى الله من عباده العلماء مستأنفة عن جملة كذلك. وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتى منهم خشية الله فدل على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قوله: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب [فاطر: 18].

وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصا للتنويه بأهل العلم والإيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله: إن الذين يتلون كتاب الله [فاطر: 29] الآية … [كتاب التحرير والتنوير].

حصر الخشية في العلماء

ما فائدة قصر الخشية على العلماء في الآية؟

وقد جاء قصر الخشية في هذه الآية الكريمة على العلماء، فقال الله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾، وهل يفيد هذا القصر أن خشية الله التي يراد منها مخافة الله لا تكون من غيرهم؟

اختار محمد طه الدرة في كتابه “تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه”، في تفسير قوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾، قال: إنما يخافه تعالى العلماء؛ لأنهم عرفوه حق معرفته؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعلي القدير أتم، والعلم به أكمل؛ كان الخوف منه أعظم، وأكثر؛ إذ من دواعي الخوف منه تعالى معرفته، والعلم بصفاته، وأفعاله، فمن كان أعلم به؛ كان أشد خوفا منه، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له». ولهذا أتبعه ذكر أفعاله، الدالة على كمال قدرته.

ونقل بعد ذلك آثارا من الصحابة في بيان هذا المعنى اللطيف، ومن ذلك:

عن ابن عباسرضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال: هم الذين يعلمون: أن الله على كل شيء قدير.

وعنه قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله.

 وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل.

وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط لله فيه، ثم تلا الآية الكريمة.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية.

وقال مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.

أما ابن عاشور فاختار أن القصر المستفاد من الآية إنما هو قصر إضافي، أي لا يخشاه الجهال، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم فالمؤمنون يومئذ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله. ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتا كثيرا. وتقديم مفعول يخشى على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.

ثم حدد ابن عاشور العلماء في الآية الكريمة، فقال:

المراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.

وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد «والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة».

ونرى ان القصر في هذه الآية الكريمة على العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، لأنها مقربة إلى الله تعالى، أما من تخصص في غير هذه العلوم فإنهم ينالون نصيبا من الخشية إذا سعوا فيها مثل سعي علماء الشريعة العارفين بالله تعالى.

وبهذا القصر علمنا أن من لم يخش الله تعالى – فمهما أوتي من العلم – فإنه لا يكن عالما، قال الزحيلي: من علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، ومن لم يخش الله فليس بعالم، كما قال الربيع بن أنس، والخشية بمعرفة قدر المخشي، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد؛ لأن الله بين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم. [التفسير المنير].

أنواع العلوم وخشية الله

ما هو العلم المحمود والعلم المذموم؟

يستفاد مما سبق أن العلوم أنواع حسب قرب العبد إلى الله تعالى بعد التعلم أو بعده عن الله تعالى، اي حسب درجة الخشية، وقد اختصر هذه الأنواع ابن قدامة من كتاب إحياء علوم الدين، ومما ذكر:
العلوم المحمودة تنقسم إلى قسمين:

الأول: محمود إلى أقصى غاياته، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل. وهو العلم بالله تعالى، وبصفاته، وأفعاله، وحكمته فى ترتيب الآخرة على الدنيا، فان هذا علم مطلوب لذاته، والتوصل به إلى سعادة الآخرة.

والقسم الثاني: العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص، وهى التي ذكرناها من فروض الكفايات، فان فى كل منها افتقاراً واقتصاراً واستقصاءاً.
فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك.
وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، واشتعل بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة، كالحرص، والحسد، والرياء، والعجب، قبل إصلاح ظاهرك.
قال ابن قدامة: فابتدأ بكتاب الله عز وجل، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعلوم القرآن.. وكذلك في السنة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه وهكذا بقية العلوم على ما يتسع العمر ويساعد فيه الوقت.

القسم الثالث: العلوم المذمومة.
قال في إحياء علوم الدين:

القسم المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلسمات والنجوم فبعضه لا فائدة فيه أصلاً وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة وإضاعة النفيس مذمومة.


 المصادر:

إحياء علوم الدين (1/ 40).

مختصر منهاج القاصدين (ص20).

التحرير والتنوير (22/ 305).

التفسير المنير – الزحيلي (22/ 262).

تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه – الدرة (7/ 672).