هناك أحداث في التاريخ تغير مجراه وتترك دروساً خالدة. ومن أعظم هذه الأحداث الهجرة النبوية التي تعلمنا مبدأ إسلامياً عظيماً: الأخذ بالأسباب. مع أن النبي محمد ﷺ كان مؤيداً بالوحي، إلا أنه لم يترك شيئاً للصدفة، بل أسس بطريقة عملية لأهمية التخطيط كجزء لا يتجزأ من الإيمان. في هذا المقال، نستلهم من هجرته كيف نوازن بين السعي الدؤوب والتوكل العميق على الله.
تفاصيل الأخذ بالأسباب في رحلة الهجرة
ومن الأسباب التي أخذ بها النبي ﷺ في الهجرة؛ الاختفاء من أعين الأعداء المتربصين به، واختيار الصاحب الذي يهون مشقة الرحلة، واختيار الدليل الخبير بالطريق من مكة إلى المدينة حيث أنها رحلة محفوفة بالمخاطر تحتاج إلى طرق غير معروفة، وفي ذات الوقت آمنة، واختيار المكان الذي يأوي إليه النبي ﷺ حتى يتوقف بحث قريش عنه، واختيار من يحمل له المؤونة اللازمة لهذه الإقامة ومن يحمل الأخبار التي ينبني عليها اتخاذ القرار في السير أو التوقف، إلى غير ذلك من أسباب اختيرت بعناية بالغة.
كل هذه الأسباب يتخذها نبي مؤيد من الله تعالى بالوحي، يتخذها وهو يقوم بأمر إلهي ينصر بها دين الله ويحافظ على المسلمين، ومع ذلك يبذل كل ما في وسعه لكي تنجح الهجرة.
الفرق بين أخذ المؤمن بالأسباب وغيره
العقلاء من البشر يأخذون بالأسباب بدءًا من التخطيط والتنفيذ والمتابعة وتقييم المواقف، فما الفارق بين أخذ البشر بالأسباب وأخذ الأنبياء والصالحين بهذه الأسباب؟
الفارق أن الأخذ بالأسباب عند الأنبياء والصالحين عبادة يتقربون بها إلى الله تعالى، وقبل أن يشرعوا في أمر يسألون الله تعالى أن يهيئ لهم أفضل الأسباب، ويعلمون أن كل سبب قد يوصل إلى الغاية التي يسعون من أجلها، وقد لا يساعد بل قد ينقلب إلى ضده.
ومن الأمثلة على ذلك ما يسعى إليه الإنسان من زوجة تسعد قلبه وتعينه على الحياة ويصل بسبب عائلتها إلى ما يعجز عنه وما ينتج عن هذا الزواج من أولاد يعتمد عليهم في المستقبل، ويبني معهم مجدا وينعم ببرهم ، لكن واقع الحال أن بعض الزوجات وبعض الذرية هم أسباب الشقاء والتعاسة ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14] الزوجة موجودة والولد موجود لكنهم حربا لا عونا.
وفي غير المؤمنين يقول تعالى ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55] إن الزوجة والولد في نظر الناس سبب للسعادة، فكيف يكونان سبب للعذاب في الدنيا قبل الآخرة؟ لقد انقلب السبب إلى عكسه.
نعود إلى سؤالنا ما الفارق بين أخذ البشر بالأسباب وأخذ الأنبياء والصالحين بهذه الأسباب؟ البشر يرتبطون بالأسباب إلى حد التعلق، فإذا فقدوا السبب فقدوا الأمل، وباتوا في حيرة ويأس ولبس، لا يستطيعون أن يروا بشكل صحيح أو يسمعوا بشكل سليم، بينما الأنبياء والصالحون يرون أن السبب لا يتجاوز كونه سببا، وأنه ليس السبب الوحيد الذي يوصلهم لغايتهم، فهناك أسباب أخرى لا نعلمها ولا نراها يهيأها الله تعالى لعباده الصالحين ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 7] ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]
عندما تنقطع الأسباب المادية: درس غار ثور
ولنتذكر اجتماع النبي وصاحبه في الغار، وقد وصل إليهم المشركون حتى قال الصديق: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا“[1].
لقد فقدا الأسباب الأرضية وهما في الغار فليس هناك من يحميهم من غيظ الكفار ، وليس هناك وسيلة اتصال يمكن أن يستنجدوا من خلالها بمن يعينهم لكن النبي ﷺ لم يفقد يقينه بربه وتوكله عليه وثقته بأن خزائن الله تعالى مليئة بالرحمة واللطف والمعونة وما على المؤمن إلا أن يكون مع ربه حتى يكون الله تعالى معه ،وحدث ما أخبرنا الله تعالى عنه ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40]
إننا نسرف كثيرا حين نعتمد على رابطة الحب أو المصالح ونبني آمالا ضخمة تذروها الرياح عند أول اختبار ، ونبقى محطمين لأن تخطيطنا قد فشل وأسبابنا قد تحطمت بينما يعيد المؤمن تقييم توكله على الله واعتماده عليه وحده ،هل كان صادقا في ذلك؟ كما يعيد تقييم الأسباب من حيث اختياره فيما بينها وحسن استخدامه لأدواته، وهل حان الوقت لكي يقدم على العمل الذي أراد؟؟
وحين ننظر إلى أخذ النبي ﷺ بالأسباب نذكر قوله تعالى ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16] وإلى قوله عز وجل ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]
وبعد أن بذل النبي ﷺ ما استطاع من خلال إعداد جنده إيمانيا ونفسيا وعسكريا ألقى حفنة من التراب على أعدائه في غزوة بدر قائلا: “شَاهَتْ الْوُجُوهُ! اللهُمّ، أَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ! فَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللهِ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا امْتَلَأَ وَجْهُهُ وَعَيْنَاهُ، مَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجّهُ مِنْ عَيْنَيْهِ”[2].
وما مدى قوة مريم حين وضعت وليدها، وجاءها المخاض، وما أدراك ما آلام المخاض، ليقول لها تبارك وتعالى ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25] وهذه الجملة القرآنية الكريمة ترشدنا إلى أنه مهما كانت حالة الانسان من الوهن فان الله تعالى يعطيه من القوة ما يحافظ به على حياته.
وحين يتوافر للمسلم صدق اللجوء إلى الله تعالى، ينزل الله عز وجل بركاته، ويجعل من القليل كثيرا ، ففي جانب المؤمنين ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] ما ينفقونه يناسب ما عندهم يتقبله الله تعالى بقبول حسن ويضاعف ثمراته في الدنيا والآخرة، وبالمقابل يخيب الله تعالى سعي الكفار ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ [الأنفال: 36] هؤلاء ينفقون أموالهم في سبيل الله وأولئك ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله.
أسباب خاصة بالمسلمين لزيادة البركة والنماء
للناس أسبابهم التي تعارفوا عليها وللمسلمين أسباب يأخذون بها، ويتعلمون ذلك من دينهم، ومن واقعهم، ومن البيئات المحيطة، وينتقون الأسباب التي توصلهم إلى غاياتهم ، فليس كل وسيلة تصلح أن تستخدم مهما كانت ناجعة في ظاهر الأمر، ولابد للغاية الشريفة من وسائل شريفة والغايات الشريفة لا تبرر الوسائل الخسيسة أبدا.
ومن الأسباب التي يتخذها المسلمون لبلوغ غاياتهم في التنمية قول النبي ﷺ “صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار”[3]. إن خطط التنمية تراعي الموارد المتاحة والتي يمكن تدبيرها بالاقتراض أو الشراكة وتعتمد على البحث عن موارد أو فرض ضرائب أو استغلال أمثل لما هو موجود من طاقات بشرية وطبيعية وخفض النفقات إلى غير ذلك.
ويعتمد المسلمون في خطط التنمية التي يعدونها على المشروع من الوسائل السابقة، ويعتمدون على الأسباب التي جاءت في هذا الحديث الشريف، وقد رأينا من يصلون أرحامهم طاعة لأمر الله ورعاية للقرابة كيف تنشأ الثقة بينهم وتتحول العلاقة إلى قوة ونماء وخير يصيب الجميع.
إن حسن الخلق الذي عده النبي ﷺ سببا في التنمية يعني فيما يعني: العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص ، والتعاون وتقديم الدعم النفسي والمادي، وحب الخير للغير والإحسان، والعفة التي يرفض صاحبها أن يمد يده طالبا للصدقة بل يعتز بالله ويعمل جاهدا على أن لايمد يده لأحد، وبذلك تزداد القوة العاملة ويقل طابور الفقراء و تزداد قوة المجتمع في جانب المعرفة والعمل ومن ثم تدور عجلة التنمية إلى الأمام.
وفي شأن تحصين العمران وحمايته من الأخطار قال ربنا ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60]، وقال نبيه (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)[4] وماذا بوسع الضعيف أن يقدم في عالم تتصارع فيه القوى؟ إن الضعيف يشعر بضعفه ويتيقن أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، بينما من اغتر بقوته يندفع وقد انطمست بصيرته وسدت منافذ الفكر فلا يسمع لناصح، ولا يستطيع أن يقدر قوة عدوه، فيهزمه غروره أكثر مما يهزم على يد عدوه، ثم إن الضعيف مهما كان ضعفه يستطيع أن يدعو بصدق وإخلاص ويستطيع أن يقدم المشورة ويستطيع أن يقدم خدمات تناسب طاقته وقدرته وخبرته والرغبة فيما عند الله من خير تجعله مقبلا على العمل متفانيا فيه بينما قد تجد الأقوياء المغرورين يفرون من ابسط الأعمال كسلا أو جبنا
كلما استضاء المسلم بنور اليقين بالله تعالى، ودعا: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل” ثم استعان بالله تعالى أعانه الله عز وجل، وأمده بمدد من عنده، واستجاب لقول النبي ﷺ “وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ”[5]
تسخير الله تعالى للأسباب غير المتوقعة
وبينما يقدم الإسلام أسبابه الخاصة لجودة الحياة بالإضافة إلى ما تعارف عليه البشر، يمنحنا الله تعالى من واسع فضله أن يجعل من بين أسباب الخير للمسلمين رجالا لا يؤمنون بالله يسخرهم الحق سبحانه وتعالى، ومن ذلك لما صبر المسلمون ومن معهم من بني هاشم وبني المطلب على الحصار في شعب أبي طالب، سخر الله تعالى لهم أثناء الحصار من يرسل لهم الطعام، وسخر الله تعالى من يكون عونا على إنهاء هذا الحصار الظالم، فوقف جماعة من قريش لم يدخلوا الإسلام لينددوا بالصحيفة الظالمة التي تعاقدت فيها قريش على حصار النبي ﷺ ومن معه، حتى أوقفوا هذا الحصار.