فإن تضامن الملَكات وتضافر الجهود العلمية في العمل الشرعي؛ يؤدي إلى سَعة الرؤية ودقة الحكم والبيان، هذا الأمر الذي يقرر ترجح الفهم الجماعي على القراءة الفردية، ولاغرو، فمهوم اللفظ القرآني دلَّ على هذا ، حيث أسند علم الهداية في معرفة الحقائق وفهم الوقائع لمجموع المستنبطين لا لآحادهم ، قال تعالى : ” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ” ([1]) ولذلك لا يليق التعامل مع النوازل الفقهية([2])إلا بمنهجية العمل المجمعي أو الاجتهاد الجماعي ، وهو استفراغ جماعة من المجتهدين وسعهم في استنباط الحكم الشرعي .

   ومعلوم أن الاجتهاد الجماعي ، أكثر حجة وإصابة في الرأي من الرؤية الفردية، حيث إن الشورى في الاجتهاد بين الأعضاء تُحدث إحاطة بكل وجهات الرأي ، وتضيق مساحة الاختلاف ، هذا الأمر الذي يعزز ثقة الناس فيما يصدر عن الهيئات المجمعية من قرارات وفتاوى ، وقد تقرر أصوليًا، أن الاجتهاد الجماعي أو رأي الأكثرية حجّة ظنية واتباعه أولى من غيره([3]) ،ويرى الشيخ شلتوت – رحمه الله-  :أن اتفاق الكثرة ، يصلح أن يكون أساسًا للتشريع العام والإلزام مع ضمان حرية البحث والنظر.([4]) ولهذا أكدت المجامع الفقهية على أن الفتوى الجماعية تعاون علمي راقٍ، وهي أمان من الفتاوى الشاذة، خاصة في قضايا الشأن العام ، وهو ما عليه الأمر في المجامع الفقهية المعتمدة ودُور الإفتاء الرسمية على مستوى العالم الإسلامي.([5])

    وكذلك فإن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى عملية التصوير الصحيح للنوازل ، حيث تعد مرحلة العرض والتصوير في غاية الأهمية ، فالتصوير الدقيق المطابق لواقع النازلة شرط أساسي لصدور الفتوى بشكل صحيح وأقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق([6]) ، ولذلك لا ينبغي للمجتهد أن يكتفي بالإحاطة بالنصوص والأصول الشرعية ومعرفة الأدلة ؛ بل عليه الإحاطة بكل ما يخص المسألة من أبعاد وأفكار ، وقد ذُكر عن محمد بن الحسن الشيباني – رحمه الله-  أنه كان يذهب إلى التجار ويسأل عن معاملاتهم.([7])  وفي بعض الأحيان يحتاج الأمر إلى بيان أكثر ، وبخاصة إذا كان الأمر له أبعاد علمية أو اقتصادية أو طبية, وهذه وظيفة المختصين بهذا المجال والخبراء والفنيين، وهذا ما يطلق عليه حديثًا في عمل المجامع الفقهية ، الاستعانة بلجان الخبراء ، وهي مجموعة تتكامل فيها الثقافات بحيث يضم مجلس الاجتهاد العلماء المختصين في العلوم العصرية إلى جانب العلماء المجتهدين في العلوم الشرعية فيكمل أعضاء المجلس بعضهم بعضًا ، وتحدث الإحاطة بالمسألة من كل جوانبها وملابساتها ومتعلقاتها. ([8]) وهذا من باب قوله تعإلى: ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”([9])  و قاعدة : ( ما لا يتم الواجب إَّلا به فهو واجب )([10])

   أما الرأي الفردي في النوازل فغالبا ما يكون مجافياً للصواب ، وبخاصة إذا صدر عمن أَلِفَ بث الآراء الشاذة واعتمدها منهجاً .

    النوازل العامة لابد وأن تُدرس في إطار علمي جماعي يضم علماء الشرعية على اختلاف مذاهبهم ، وبجوارهم الخبراء المختصين بالأمور العلمية الأخرى ؛ ليستفرغوا وسعهم في استنباط الحكم الشرعي ، وفق الشروط والضوابط العلمية والمنهجية.

   ورحم الله الإمام الطبري حيث قال: ” إن الله عز وجل أمر نبيه – –  بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر … ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم … فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك على تصادق وتآخ للحق ، وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى ولا حيد عن هدى ؛ فالله مسددهم وموفقهم([11])


(1) سورة  النساء  من الآية (83) .   

([2]) النوازل : حوادث ووقائع حديثة ، لم يحكم عليها بحكم شرعي معين .

([3]) (انظر الإحكام  ، الآمدي 1/235)

([4]) الإسلام شريعة وعقيدة ، ص 469 .

([5]) انظر مجلة الأزهر عدد ربيع الأول ١٤٣٩ هـ – نوفمبر/ ديسمبر ٢٠١٧ م ص 534 .

[6]) ) انظر نهاية السول ، الإسنوي الشافعيّ 1/15 .

[7])) انظر البحر الرائق؛ لابن نجيم (6/288).

[8])) انظر الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي لعبد المجيد الشرفي ,  ( ص 91 )  .

[9])) سورة النحل من الآية 43.

([10]) انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللَّحَّام  ( ص 94 ) .

([11])تفسير الطبري 7/345 .