مما شاع في الدرس الأصولي والفقهي أن (الفتوى معلمة، لا ملزمة)، وقد نقل ذلك عن كثير من الفقهاء والأصوليين، من ذلك ما جاء في (كشاف القناع 6 / 299): ” والمفتي من يبين الحكم الشرعي ويخبر به من غير إلزام”. فالقضاء يكون على وجه الإلزام ، والفتوى من غير إلزام ، فهما يجتمعان في إظهار حكم الشرع في الواقعة ، ويمتاز القضاء عن الفتوى بالإلزام.

 وقد فسر كثير من العلماء عدم إلزام الفتوى أنها مجرد إخبار، والإخبار غير ملزم، وهذا يصدق من جهة المفتي، فالمفتي ليس له سلطة في إجبار الناس على تنفيذ فتواه، بخلاف من له سلطة مثل القاضي والحاكم، ولكن الإشكال شاع أن انسحب هذا التفسير على المستفتي، بمعنى أن المستفتي إذا استفتى مفتيا في مسألة، فله الأخذ بها أو تركها، وهذا معنى خطير للغاية، لأننا هنا انتقلنا من الحديث عن ( سلطة المفتي) فهو ليس له سلطة، إلى ( سلطة الفتوى)  التي هي إخبار عن حكم الله تعالى، والإخبار هنا ليس إخبارا بالمعنى اللغوي، بمعنى أنه يحتمل الصدق والكذب في كل حال، ولكن جعل (الفتوى غير ملزمة للمستفتي) غاية في الخطورة وتهوين للدين، فالفتوى إخبار عن حكم الله تعالى، وهنا يأتي التساؤل: هل حكم الله تعالى غير ملزم للمسلمين؟

إن عدم إلزام الفتوى- وليس سلطة المفتي في التنفيذ- معناه – كما فسر البعض- أنه إن لم يعجبه فتوى مفت معين، فله أن يذهب إلى مفت ثان، فإن لم تعجبه فتواه، فله أن يذهب إلى مفت ثالث، وهذا خرق ولعب بدين الله تعالى، لأن المستفتي لو كانت له القدرة على تمييز الأحكام لما احتاج إلى المفتي، ولباشر هو اجتهاده، لكن الله تعالى أمره وجوبا أن يسأل أهل العلم إن كان جاهلا بالحكم، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا ‌أَهْلَ ‌الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وإذا كان واجبا على المستفتي أن يسأل أهل الذكر في حال عدم العلم، فما الفائدة إن كانت الفتوى عنده ليست ملزمة، ولم يسأل؟!

وبقواعد المنطق: من كان جاهلا فعليه أن يسأل أهل العلم، إذن فما النتيجة الحتمية لذلك؟ إنها: عليه أن يلتزم الاجتهاد من المفتي إن صدر عمن هو أهل للإفتاء.

وقد أشار القرآن أنه عند التنازع وعدم وضوح الحكم أو الأمر يرد إلى أهل العلم الثقات المجتهدين، ويلزم من ذلك اتباع آرائهم واجتهادهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ‌لَعَلِمَهُ ‌الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].

وإن كان الواجب على المفتي المجتهد أن يتقي الله تعالى ببيان الحق الذي يعتقده، وألا يكتمه، بل يوضحه ويبلغه للناس، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ‌وَلَا ‌تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، فإن هذا يقابله من جهة المستفتي أنه يجب عليه شرعا أن يلتزم بالفتوى إن كانت من أهل الثقة والعلم والديانة.

وإن ما نراه في واقع المسلمين من كثرة الاستفتاء للمفتين، والتخير من المستفتي، لهو لعب في الدين، وخروج عن منهج الصالحين.

لكن إذا كان المستفتي بدينه وورعه وجد أن المفتي لم يفهم السؤال جيدا، أو لم يحصل له تصور كامل في المسألة، فله أن يسأل غيره ديانة، أو علم أن هناك من هو أعلم منه فلا بأس بسؤاله، حتى يطمئن قلبه أن هذا هو الجواب الصحيح الموافق لحاله.

أما ما يحصل اليوم من التنقل بين المفتين حتى يكيف إحدى الفتاوى على حاله؛ مسكنا ضميره أنها فتوى عالم، وأنه يتخير من هذه الفتاوى حسب هواه؛ فلا يقول بذلك عالم منصف.

قال الشاطبي في ( الموافقات 4/ 133): ” ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين .. فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف.

على أنه من الأهمية بمكان أن يتخير المستفتي الأعلم الأورع الأحفظ لدينه، وأن يسأل أهل الثقة ممن عرفوا بالفتوى لا أن يكون مجرد إمام في المسجد، أو متحصل على شهادة فحسب، بل مشهود له بالعلم والفقه والدين، فهذا هو نوع الاجتهاد عن المستفتي، فكما أنه يسأل في شؤون الدين ويحتاط لأمور ديناه ويستشير غيره في هذا؛ كذلك وجب عليه الاحتياط لدينه وأن يتخير الأعلم الأورع، فإن لم يكن يعلم، فعليه أن يستشير من يستفتي، ولكن إعطاء المستفتي سلطة الاختيار والترجيح فيها كثير من المزالق والمفاسد والضرر الذي يلحق المستفتي في دينه ودنياه.

الخلاصة: إن الفتوى من جهة المفتي ملزمة ليست معلمة، فالمفتي لا يملك سلطة لتنفيذ الحكم أو إجبار الناس عليه، ولكنها من جهة المستفتي ملزمة ديانة لا قضاء، وعليه أن يتخير من المفتي ما عرف بالعلم والدين، وله أن يتوقف بالعمل في الفتوى إن رأى ديانة أن الفتوى لا تنطبق عليه لنقص معلومات، أو لعدم استكمال التصور، أو ظهر له من هو أعلم به، فأراد أن يطمئن لصحة الفتوى، لكن لا يجوز له التنقل بين المفتين تشهيا واتباعا للهوى.