فكرة هذا المقال غير النمطي ” التأصيل الشرعي للدفاع الحقوقي ” كانت تهنئة بمناسبة عيد الفطر المبارك لجمع متألق من المحامين والمحاميات الذين أبلوا بلاء حسنا في حراك حقوقي معاصر مشهود، حيث وردت خاطرة أن أكتب لهم فقرة تنضاف إلى التهنئة، مفادها إكبار أدائهم الحقوقي الرائع بتأصيل وتبجيل، فعدلت عن ذلك مقتصرا في التهنئة على معهود التحية والتبريك والدعاء، ومخصصا له هذا المقال، تعميما للفائدة وتوثيقا للمعايدة وتمتينا لسند حقوقي وتثبيتا لمسار نضالي. وعلى الله قصد السبيل.

تهنئتي للمدافعين عن الحقوق والحريات، المرابطين بأبحاث البداية وأحكام النهاية، أوفياء شرف المحاماة، أنقياء سند المعاناة.

متابعتي ما ابتليتم به من الأعباء والإعياء والبدايات والنهايات، ومن مرارات الضيم وشذوذات المقروء ومعاناة وعذابات، الله وحده يقدر وزنها وثوابها، متابعتي “هذه أو تلك” قربا وبعدا حسب دلالات الإشارة، حملتني على اعتبار ذلك نوعا من أعلى القربات والصالحات، التي يكتب الله -سبحانه- عظيم أثرها في استمرار سند الحقوق وتثمير متن الكرامة وصلاح نفس وذرية ورحمة والدية وسعادة أبدية في جنات الله العلية.

مدركات مسارات الأداء الدفاعي الشرعي

تأملت مسارات الأداء الدفاعي فوجدتها بمدركات شرعية كلية[1]، وبدلالة قوية على وعي عال[2] بذلك:

مدرك أول يتعلق بالذب عن المظلوم والسعي إلى تحريره وإعتاقه، وأحسب أن هذا الأداء الدفاعي معدود من جنس العتق الدنيوي الذي يكون بجزاء العتق الأخروي، الذي هو من جنس العمل، بمدلول الآية الكريمة { جزاء وفاقا } [النبأ: 27]، وهي بمعنى القاعدة الكلية في ترتيب الجزاء وفق المنجز، واجتماع دلالة الآية مع القاعدة يفيد الكلية من جهة أولى، واليقين أو الظن الغالب من جهة أخرى.

مدرك ثان يتعلق بفضيلة التبرع[3] الذي يحال في التحقيق العلمي على الوقف والصدقة والمسامحة.. وأحسب أن تخصيص أوقات بالساعات والأيام، يندرج تحت الوقف بالوقت، الذي هو تحبيس النفس لأوقات لتسبيل منفعة المرافعة والمؤانسة والمرافقة للمدافع عنه، وتسبيل منفعة التطمين والتثبيت لعائلته وذويه، وتسبيل منفعة البيئة العامة في استمرار كرامة وحماية حقوق وتعزيز قدرات ومسارات، في عدالة عامة وسيادة حقيقية كاملة أو قريبة منها.

كما أحسب أن التبرع بالوقت يعد من أرقى الصدقات التي جاء الثناء الرباني عليها في أعلى مقامات الأداء الدنيوي والانتقال إلى عالم الآخرة، فقد ورد التنصيص عليها في لحظات احتضار الإنسان وتأكيد عظمة حضورها في تلك اللحظات الكونية الانتقالية الصعبة، والآية هي: { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلىٰ أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } [المنافقون: 10].

ولي في الآية إشارات يسيرة:

أن استحضار الصدقة في لحظات الاحتضار يفيد عظمة أثرها في تهوين مقام الانتقال، وذلك من جنس ما يقوم به المتصدق من التهوين على المتصدق عليه، فالصدقة تهوين وتخفيف عن المصاب والمبتلى، فيكون الجزاء الاحتضاري في التهوين والتخفيف من جنس التهوين في الأداء الدنيوي، ومعلوم ما للمحامين “الحقوقيين الحقيين” من أثر عظيم في التهوين على المصاب بضيم اتهام وظلم أحكام، وهذا معدود من سبل تهوين الختام ومقابلة الملك العلام.

وأن الصدقة[4] تكون في معنى الإنفاق الذي تتعدد أشكاله ومقاديره وأحواله، وقد جاء في تحقيق العلم أن الإنفاق يكون من جنس الرزق الذي يؤتاه الإنسان المرزوق، كالرزق بالمال والعلم والصحة والخبرة، وهو ما يلزم منه القول إن الأداء الدفاعي الحقوقي نوع من الإنفاق من نوع الرزق العلمي والحقوقي والمهاري والنضالي الذي يؤتاه المحامي بفضل منه وكرامة. والدليل دلالة الآية: ﴿وأنفقوا مما رزقناكم﴾، فقد طلب الإنفاق مما رزق الله تعالى به المنفق.

وأن الصدقة التي يتمناها المحتضر -ومنها الصدقة الدفاعية[5]– إنما هي الصدقة التي تؤدى في أجل قريب من لحظات الاحتضار، وربما لثوان قليلة قبل خروج الروح، ليتبرع المحتضر بكلمة حق أو إبراء متهم أو وصية بمال أو اعتذار عن أذى، وفي هذا تنبيه إلى معنى من تصدق قبيل وفاته، ومن كان ديدنه التصدق في حياته برزق ما قد أوتيه، ومن كان تصدقه غالبا ومستمرا -بما هو ممكن ومستطاع- فهو على حسن ختام وبركة مقام، بإذن الله الكريم.

مدرك ثالث يتعلق بالأثر الحقوقي الباقي الذي جاء التنويه به في مقام ما يتركه المرء بعد موته، ومن ذلك نص قول الله تعالى: { إنا نحن نحيي الموتىٰ ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [يس: 12].

وعموم الأثر جاء بيانه في الحديث: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[6]”، فهو أثر علمي وأثر نسبي وأثر في العطاء الذي ذكرناه في مدرك التبرع فيما يتعلق بالصدقة، ويزيد عليه استمرار هذا التبرع بعد وفاة المتصدق، والأثر العلمي الدفاعي والحقوقي يشمل النتائج الفورية الجارية في الحلقات الأولى للقضية من بحث بداية وسماعات وتحقيق ومكافحات واتهام وسراح ونحوه، ويشمل -بتبرئة الشخص المتهم- النتائج الإيجابية المتراخية، وعائلته ومساراته العلمية والمهنية والمدنية والسياسية.

أما الأثر العلمي، فهو المشار إليه في الحديث: “علم ينتفع به“، وفي هذا إشارات:

عموم العلم الشامل لكل معرفة نافعة في مجالات الحياة كلها، ومنها: علم القانون والمحاماة والقضاء، بشرط أن يكون نافعا نفعا تقتضيه مصلحة المتهم وأعراف العقلاء وشواهد الواقع، ويدرأ به ضر وشر، وهو المذكور بنص الحديث “علم ينتفع به. ارتباط العلم بالعمل، وهو أصل في الدين متين، وقد أثنى الله على وصل العلم والقول والإيمان بالعمل والممارسة والمراكمة والمحايثة للملابسات والابتلاء بالواقعات والترافع في التحقيقات، والابتلاء بذلك كله ابتلاء تمحيص وفرز وتمكين وعز، عظمة آثار العلم بعد وفاة صاحب العلم الحقوقي، على مستويين: مستوى عظمة الأجور العظيمة يوم القيامة، وهي بجبال قد تفاجئ صاحبها الذي قدم عمله بتوطين نفس على ذلك واستمرار وادخار، { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } [آل عمران: 30]. ومستوى كثرة الثناء عليه والدعاء له، وهذا بفضله الغزير وفتوحه الكثير.

أما الأثر النسبي، فهو المذكور في الحديث: “ولد صالح يدعو له”، والولد يراد به الابن والبنت والحفيد والحفيدة وبالفرع وإن نزل بالتعبير الفرائضي، ولي في هذا إشارات:

أن ولد الوالد الدفاعي يدعو لوالده ويسعفه بما وقع فيه الوالد من نقائص الأداء والقصور عن مرتبة الكمال، وربما مرتبة الإجزاء، وهو ما يعرف باستدراك الولد فيما ينفع الوالد الذي وإن قصر في موضع الاستدراك إلا أنه أدى الإعداد الولدي، ليكون في مقام الاستدراك والدعاء له والترحم عليه والبر به بعد موته.

وأن ولد الوالد الحقوقي ينتفع هو كذلك بما قدمه والده، وهذا ثابت بتنبيه الآية: { وكان أبوهما صالحا } [الكهف: 82] وقيل إنه كان الجد السابع[7] الذي كان صالحا في مجال صلاحه، وليس في الآية ما يشير إلى نوع صلاحه، وهل هو صلاح عبادات أو صلاح معاملات وسياسات ومرافعات وخدمات، وقد اكتفي في تنبيه الآية بوصفه بأنه “صالح”، وهذا يفيد عموم صلاحه حسب ما يطلب منه وما يقدر عليه وفق شروط التكليف بالصلاح والإصلاح على نحو واجب الوقت وشغل الذمة والقدرة ونحوها، وأن عدم الولد (الابن والبنت) لا يحرم الإنسان من فضل الأثر بعد الموت، بعنوانين:

العنوان الأول: عنوان العلم الذي ينتفع به وعنوان الصدقة، والعنوان الثاني: نية المرء ودعاؤه بأن يعطيه الله لمن له ولد فضلا وأجرا: ﴿واسألوا الله من فضله﴾ [النساء: 32]، ولهذا قاعدة جليلة في الشرع العزيز، وهي “إعطاء المعدوم حكم الموجود وإعطاء الموجود حكم المعدوم[8]”، وقد لاحت في ذهني معقولية هذه القاعدة من حيث عموم جريانها في شيء معدوم يكون في حكم الموجود، باعتبار التقدير الشرعي والمسالك المعتبرة في ذلك، كالدعاء، والإلحاح فيه، وتحري مظان إجابته، وفعل البدائل عند تعذر الأصول. فضلا عن قاعدة “العلم رحم بين أهله”..

مدرك رابع يتعلق بالمصالح العامة المتعدية وأولويتها على المصالح الخاصة القاصرة، وعالم المرافعات والمحاماة يعد من جنس المصالح العامة المتعدية، ومن قبيل الولايات الكبرى التي تحفظ بها الحقوق والحريات ويقام بها العدل وتزدهر فيها الحياة وتستقر النظم والمؤسسات، وتدرأ بها الفتن والأزمات والتهارج والنزاعات.

وهذا بآثاره العامة والخاصة في حفظ النفوس والأموال والأعراض، وحماية الأوطان والعمران وتكثير الخير والإحسان.

مدركات لتأصيل رباط ومعاناة، لمحاماة وقضاة، وفاعلين تقاة. وقد تقررت بنظر في الدين فسيح وأمل في الله عظيم. وقلت لمنافح كريم: “سيدون هذا المكتوب وما في المنافحة من الضروب، في سير أعلام النبلاء وتراجم الأعلام وصحائف القيامة في سند حرية وكرامة، من أجل بلوغ رواق الحقوق في إقامة دائمة في دار الكرامة الأبدية. والتهنئة مفتوحة على تهان أخرى في مدارسات وسياسات. والحمد لله رب العالمين.


[1] المدركات جمع مدرك، والمدرك هو كل ما يدرك أو يحصل به المعنى والحكم، من نص وأثر ولغة وعلة ومقصد وجمع وفرق وسياق ومآل.. بعلم نظر وعلم عمل. والكلية هي وصف لهذه المدركات من جهة شمولها لما هو تحتها من الجزئيات. فتكون هذه الكليات الإطار الاستدلالي المرجعي للأداء الدفاعي الحقوقي، كليا من جهتها وجزئيا مما هو تحتها. وهو حقيقة الجمع بين الكليات والجزئيات، في إفادة الأحكام وتقرير المقاربات وتحصيل المنتوج النظري والعملي. أما خلاف ذلك فبتر للمبنى وحبس للمعنى وتفويت للمصلحة والمرمى. وللآخرة خير لك من الأولى.

[2] الوعي العالي هو إدراك المعاني العالية بطريق المدركات الكلية. ولا يقتصر الفهم فيه على ما دونه، من الفهم الجزئي والحرفي والظاهري الشكلي، ونظيره في علوم أخرى النظر “البانورامي الماكرو” في مقابل النظر الموضعي “الميكرو”. والأصل في ذلك الجمع بين الكليات والجزئيات والأصول والفروع، بمقتضيات ذلك نظرا وعملا. والله المستعان.

[3] يطلق التبرع في مقابل المعاوضة، فالتبرع من هذا الوجه هو العطاء من غير عوض، والمعاوضة هي العطاء بعوض، كالبيع والشراء، فكل من البائع والمشتري يأخذ عوض ما أعطى. والتبرع الدفاعي يعني أن يخصص المحامي جهدا وزمنا ومجالا في دفاع عن مظلوم وتعزيز لحقوق ومواجهة لبغي واستبداد. وهو ما لا يتعارض البتة مع طبيعة مهنته في قيام معاشه ومعاش أسرته وذويه، بما يحصل من المكاسب والأعواض. وهذا هو الجمع الأصيل بين العدل والإحسان، والتبرع والمعاوضة.

[4] الصدقة هي مطلق العطاء بصدق وتصديق وإحسان وتوفيق، ولا ينبغي أن تختزل في عطاء مادي محدود أو عطاء على سبيل التفوق والتعالى ونحوه.

[5] هي بذل المحامي للأداء الدفاعي بالفكر واللسان والسعي والمرافقة والمرابطة بجلسات السماع والبحث والتحقيق لساعات وأيام، وهي كذلك بذل المجموع الدفاعي للأداء الدفاعي الجماعي بالتنظم القطاعي وتنظيم الحملات والوقفات والانتظام الحقوقي بأشكاله ومقتضياته. ومعلوم ما للمحاماة من أدوار عامة في مقاومة الاحتلال والاستبداد وتعزيز الثورات والانتفاضات.

[6] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته برقم 1631.

[7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 5/187، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط/2، 1420هـ – 1999م.

[8] قال الإمام القرافي في الفروق: “لأن قاعدة التقادير الشرعية “إعطاء الموجود حكم المعدوم أو المعدوم حكم الموجود”، فيحكم صاحب الشرع بأن العقد الموجود والإباحة المترتبة عليه وجميع آثاره في حكم العدم، وإن كانت موجودة، ولا تنافي بين ثبوت الشيء حقيقة وعدمه حكما كقربات الكفار والمرتدين موجودة حقيقة ومعدومة حكما والنية في الصلاة إلى آخرها موجودة حكما ومعدومة حقيقة عكس الأول، وكذلك الإيمان والإخلاص وغيرهما يحكم بوجودهما، وإن عدما عدما حقيقيا وقد بسطت ذلك في كتاب “الأمنية في إدراك أحكام النية” فظهر أن المقدرات لا تنافي المحققات”. الفروق، القرافي، 1/193-194، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، ط/1، 1424هـ – 2003م.