يشعر الإنسان بالحرمان من الخير عندما يرى غيره يتقلب في نعم الله تعالى وربما شعر بالغيرة أو الحقد تجاه من أنعم الله عليهم وقد يحسب أن إعطاء الله تعالى لبعض خلقه دليل على رضاه عنهم وان منعه سبحانه وتعالى بعض النعم عن بعض الخلق دليل على سخطه جل جلاله، وقد بين الله تعالى خطأ هذا الفهم حين قال {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 – 17]
هل الحرمان من الإنجاب أو من المال هو الحرمان الأكبر؟
إن المال قد يتوافر وقد يرزق الله البنين والبنات، ويكون كل منهما سبباً في شقاء صاحبه {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55].
وقد يحرم الإنسان من الأولاد لكن الله تعالى ينعم عليه بنعمة الرضا ويجعل في قلوب أطفال أقاربه حنينًا له، ربما أكثر من والديهم وبذلك يشعر أنه أب للأسرة كلها كبيرها وصغيرها.
وقد يعوض الله تعالى من حرم من المال بحسن التدبير والقناعة والجد في السعي حتى يرزقه الله من فضله الواسع وينتقل من صفوف الفقراء إلى جوار الأغنياء.
إن العطاء الإلهي مبني على الحكمة التي قد تبدو لنا وكثيرا ما تغيب عنا لكن ما هو الشيئ الذي إذا حرمنا منه كنا حقا محرومين؟
صور الحرمان من الخير
نعود إلى الكتاب والسنة نبحث فيهما عن صور الحرمان وأسبابه، فنجد من صور الحرمان :
- ونبدأ بقول النبي ﷺ عن شهر رمضان : “فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ”.
إن عوائد الله تعالى أن يفتح أبواب فضله وإحسانه للخلق، فمنهم المفلحون الذين يهيئون قلوبهم لتأخذ بحظها من فضل الله، ومنهم الخاسرون المحرومون الذين تلهيهم الدنيا مهما كان نصيبهم منها قليلا.
إن المحروم من الخير ذاك الذي فاتته تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر فلم يوفق لإحيائها ولو بأداء صلاة العشاء والتراويح والفجر في جماعة.
إنه العاجز عن أن يشغل لسانه وقلبه بهذا الدعاء (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، ومهما كانت ضغوط العمل يستطيع أن ينطق بهذه الكلمات المباركات، لقد حرم الثواب الكامل والغفران الشامل، حرم خيرا كثيرا لا يستطيع أحد أن يصفه.
- ومحروم آخر ذلك الذي لم ينل شيئا من رحمة الله تعالى مع سعتها وشمولها، قال ربنا {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]، فقد حرم من هذه الرحمة الواسعة لأنه لم يحقق شروط المرحومين، فلم يكن ممن قال الله فيهم {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 156، 157]
- الحرمان من المغفرة رغم سعتها {إن ربك واسع المغفرة} لم يتعرض لمغفرة الله ولم يستحق أن يكون ممن غفر الله ذنوبهم وستر عيوبهم هل لأنه لم يقر بذنبه أصلا هل لم يكن في باله لقاء الله تعالى والوقوف للحساب بين يديه سبحانه.
سبب الحرمان من الخير
أما عن سبب الحرمان من الخير في الدنيا والآخرة فمنها :
- أكثر الناس حرمانا أولئك المراؤون بأعمالهم وما أشد حسراتهم حين يجازي الله تعالى من عمل صالحا بالجزاء الأوفى، بينما يحرم هؤلاء من ثمرات أعمالهم لأنه لم تكن لله، بل كانت للبشر يحرمون من الحسنات وهم أشد ما يكونون حاجة لها وتشتد حسرتهم حين يوقنون بضياع الفرصة لتصحيح النية أو للقيام بعمل صالح يرضي الله ويجنبهم سخطه سبحانه
قال أبو هريرة: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ يَقْتَتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ
وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وقَالَ الْوَلِيدُ أَبُو عُثْمَانَ فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَحَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلَاءِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ وَقُلْنَا قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الشورى 20].
الحرمان من النعيم
والحرمان من النعيم في الآخرة أحد أقسى أنواع الحرمان وعندما نعلم أن هذا الحرمان سببه استعجال لذة محرمة في الدنيا، ويأتي هذا الحرمان كنذير لنا لكي نكف أنفسنا عن المحرمات قانعين بما آتانا الله من فضله منتظرين ما اعده الله لعباده الصالحين الذين استقاموا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُسْقَهَا “
الحرمان بسبب الاستعجال
وهناك قاعدة استقاها أهل الحكمة من مجموع النصوص الشرعية وهي:”من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه”، وهذه القاعدة تهذب نفوسنا وتربينا على الحكمة التي تقتضي أن لكل شيء موعدا مناسبا فتناول الطعام قبل نضجه مؤلم للمعدة ويحرم من التللذ بطعمه والانتفاع بفوائده وكذلك كل شيء يستعجله الإنسان.
أسباب أخرى للحرمان من الخير
- من تيسر له الذهاب إلى المسجد لكنه لا يذهب فإنه محروم من ثواب كبير، وكثير من الناس محروم من ثواب الخطوات إلى المسجد وكل خطوة ترفعه درجة أو تحط عنه خطيئة،كما هو محروم من ثواب صلاة الجماعة، ومحروم من لقاء المسلمين في أطهر مكان، ومحروم من تنزل رحمات الله على من اجتمعوا تقربا منه سبحانه
- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْر” هذه القاعدة الجليلة التي تنبئنا عن أحد أكبر مصادر الحرمان، فأغلب أمور الإنسان لا تكاد تتم إلا بالرفق، فإذا حرم الإنسان من الرفق لم يستطع الوصول لأغلب أهدافه.
والرفق يقتضي الحكمة التي تمنع من التجاوب مع دواعي العنف ويقتضي البصيرة التي تدرك بنور الله تعالى أن الخسائر المترتبة على الرفق أقل بكثير جدا من الخسائر المترتبة على العنف، وأن تأليف الناس خير من اكتساب خصوماتهم.
ويقتضي الرحمة فإن الرفيق يراعي الضعف الإنساني، ويقتضي الصبر فإن المشاكل المعقدة لا تحل بين يوم وليلة، وقد أوصى الله تعالى نبيه ﷺ بالرفق {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159] فمع ما أوتي النبي ﷺ من معجزات وما ايده الله تعالى به من الآيات يوصيه الحق سبحانه بالرفق واللين.
لم يجعل الله تعالى الدنيا دار جزاء بل جعلها دار ابتلاء، وأحد أوجه البلاء حرمان الإنسان مما يحب، وقد يكون فيما يحبه هلاكه وخسارته لدنياه وأخراه.
أما المؤمنون حقا فهم يعلمون أن الله تعالى حرمهم من أشياء وأعطاهم ما لا يعد ولا يحصى من النعم، وأنه سبحانه ما حرمهم مما يحبون إلا لحكمة عليا فإذا رضوا بقسمة الخلاق العليم سعدوا وفازوا، وعوضهم الله تعالى خيرا مما يريدون في الدنيا والآخرة، وإذا اعترضوا لم ينالوا إلا ما قدر لهم وحرموا من رضوان الله تعالى عليهم.