يتصور البعض أن الحملات الصليبية لم تكن سوى سلسلة متصلة الحلقات من الحروب العسكرية بين المسلمين وبين الغزاة الأوروبيين، وأن لغة السلاح كانت اللغة الوحيدة المعتمدة للتفاهم بينهما لكن هذه الصورة لا تعبر إلا عن وجه واحد من أوجه الصراع، إذ كان الحصار الاقتصادي وجها آخر من أوجه الصراع، ذلك أنه مع بدايات الحرب أعلنت الباباوية عن تطبيقها حصاراً اقتصادياً على مصر والشام لتكون عاملاً مساعداً في الحرب، وبمرور الوقت تحول هذا الحصار وما تبعه من فرض مقاطعة شاملة لمصر وكل من يتعامل معها تجارياً ليصبح الملمح الأبرز للحروب الصليبية وذلك بعد انقضاء العمليات العسكرية باقتلاع الصليبيين من جيوبهم الاستيطانية في الشام أواخر القرن الثالث عشر.

هذا ويذهب كثير من المؤرخين إلى أن العامل الاقتصادي كان عاملا من العوامل التي حفزت الغرب على إرسال قواته إلى الشام، وعلى سبيل المثال يفترض المؤرخ تومبسون أن الحروب الصليبية كانت أول تجربة أقدمت عليها الأمم الأوروبية لتحقيق مكاسب اقتصادية خارج أراضيها.

مصر والتجارة الدولية

قبل الشروع في استعراض المحطات الأساسية للحصار الاقتصادي الصليبي علينا أن نوضح أولاً  الدور الذي مثلته التجارة بالنسبة للدولتين الأيوبية ثم المملوكية – الدولتان اللتان تعاقبتا على حكم مصر والشام إبان هذه الفترة-؛  فالمعروف أن الأهمية التجارية لمصر تعاظمت بشكل ملحوظ نتيجة حركة توسع المغول التي نتج عنها توقف طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب التي كانت تمر بالخليج العربي أو البحر الأسود ثم فارس، ولم يعد آمناً من هذه الطرق سوى طريق البحر الأحمر ومصر وهو ما جنى منه سلاطين مصر الربح الوفير ومكنهم من توفير الاعتمادات المالية الكفيلة بتمويل حربهم ضد الصليبيين، ونتج عن ذلك أن تحكمت مصر بطريق التجارة العالمي، باعتبارها البوابة التي تمر من خلالها البضائع الشرقية إلى الغرب كما تمر بها أيضا البضائع الغربية للشرق.

وكان التبادل التجاري بين الشرق والغرب قد شهد زيادة ملحوظة خلال هذه الفترة على عكس المتوقع؛ فقد أسهمت إقامة الصليبيين في الشام في التعرف عن قرب على السلع الشرقية المميزة -وخصوصا التوابل -وتطلع الأوروبيون للحصول على هذه السلع، ولعل هذا يفسر لنا مشاركة المدن التجارية الغربية مثل جنوة وبيزا والبندقية في الحرب، وقد حقق أبناء هذه المدن مكاسب طائلة نظير قيامهم بالتوسط بين الشرق والغرب وقاموا بعقد الكثير من الصفقات التجارية الرابحة مع التجار الشرقيين.

البابوية والقرصنة باسم الدين

غداة قيام الحروب الصليبية سارعت البابوية بإعلانها عن مقاطعة تجارية شاملة لمصر وكل من يتعامل تجارياً معها، ونجحت في إقناع المدن التجارية الإيطالية الشريك التجاري الرئيسي لمصر بتطبيق هذه المقاطعة، غير أن هذه المدن تضررت تضرراً اقتصادياً واضحاً من جراء ذلك وهو ما دفعها للضرب بتعليمات البابوية عرض الحائط وإعادة إرسال السفن الإيطالية إلى الموانئ المصرية، وتسامح سلاطين مصر بصفة عامة مع التجار الأوروبيين، وعلى سبيل المثال أبدى صلاح الدين الأيوبي “سلطان مصر” سعة صدر في التعامل معهم ، وبرغم استمرار الحرب وتجريد الصليبيين الحملات العسكرية في الشام إلا أنه لم يشأ معاقبتهم لاشتراك مدنهم في القتال لجانب الصليبيين، بل على العكس أظهر قدراً من الترحاب بهم وبسفنهم في الموانئ المصرية، الأمر الذي شجعهم على تحدي قرارات البابوية الخاصة بمقاطعة مصر، وإعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها وتوقيع عدة معاهدات تجارية بين الطرفين.

عادت البابوية وجددت الإعلان عن فرض حظر اقتصادي شامل على مصر وشددت على ضرورة تطبيقه بسبب النجاحات العسكرية المتوالية التي حققتها الدولة المملوكية ضد الصليبيين والتي انتهت بتصفية آخر الجيوب الاستيطانية الصليبية في الشام بإسقاط عكا عام 1291 ميلادية، إذ أصدر البابا نيقولا الرابع مرسوماً حرم فيه على العالم المسيحي بأسره التجارة مع مصر مع توقيع قرار الحرمان الكنسي على كل من يخالف هذا القرار فضلاً عن مصادرة جميع أمواله وممتلكاته، وهو القرار الذي كان موجهاً بالأساس إلى التجار الأوروبيين المتعاملين مع الدولة المملوكية الذين أمدوها بالمواد الحربية الأساسية مثل: الحديد والأخشاب والقار والكبريت.

ولم تردع هذه القرارات التجار وتحملهم على إيقاف تعاملهم مع مصر، الأمر الذي ألجأ البابا إلى اتخاذ أسلوب أكثر حزماً فأمر بتجهيز عشر سفن حربية للقيام بأعمال القرصنة تجول في البحر المتوسط وآسيا الصغرى ومصر، وهي التي عرفت باسم “فرسان القديس يوحنا” وقد ازداد عددها حتى وصلت إلى خمس وثلاثون سفينة في نهاية فترة الحظر، وقد قامت هذه السفن بمهمة إرهاب السفن المسيحية التي تخرق الحظر التجاري على مصر ومهاجمة السفن المسلمة التي تجوب البحر المتوسط وسرقة ونهب محتوياتها، وقد اتسع نشاط هذه السفن مع نهايات الحروب الصليبية وتكررت اعتداءاتها على الموانئ المصرية وبخاصة مينائي الإسكندرية ودمياط، وكانت تقوم بالسطو على السفن الراسية فيهما واقتيادها في بعض الأحيان إلى قبرص مقر قوات”فرسان القديس يوحنا”.

وموقف البابوية المتشدد تجاه التعامل التجاري مع مصر يحتاج إلى تعليل؛ فالمعروف أن إخفاق الصليبيين في تكوين بؤر استيطانية تستوطن فلسطين والإخفاق في هزيمة المماليك جعل البابوية تؤمن أن النجاح الذي تؤمله لن يتحقق بالحرب وإنما يتحقق عن طريق تطويق مصر اقتصادياً في البحر المتوسط، وكشفت البابوية عن ذلك في رسالة عنوانها “أسرار حماة الصليب ” التي أعدها أحد الفرسان الصليبيين وتبناها البابا ونشرت على العالم المسيحي عام 1321م -أي بعد ثلاث عقود على الإجهاز على المستوطنات الصليبية- وجاء بها أن الحملة الصليبية الناجحة لابد وأن تمر بثلاث مراحل: أولها التمهيد بإضعاف قوة مصر الاقتصادية عن طريق فرض حصار بحري كامل لمدة ثلاث سنوات، وثانيها مرحلة إرسال الحملة العامة، وثالثها مرحلة الصمود في الأرض المفتوحة والاحتفاظ بالأرض المقدسة في أيدي الصليبيين.

وكما أن الحرب التي أعلنت على الإسلام واتخذت من الصليب شعاراً لها بعيدة كل البعد أن تكون ذات منطلق ديني فكذلك القرارات البابوية المتعلقة بالحظر الاقتصادي وفرض المقاطعة على الدولة الإسلامية في مصر، فقد أراد بعض الباباوات من ورائها الحصول على بعض المكاسب المادية ذلك أن المدن الإيطالية والتجار الأوروبيين في سبيل رفع الحصار التجاري عن مصر الذي أضر باقتصادهم وكبدهم خسائر فادحة اضطروا للجوء إلى دفع الأموال للباباوية نظير الحصول على بعض التراخيص التي تجيز لهم التعامل مع مصر.

وقد دفعت مدينة البندقية الإيطالية أموالاً طائلة نظير الحصول على هذه التراخيص بعد أن تقدمت بعدة شكاوي أوضحت فيها مدى الضرر الذي لحق بها جراء الحصار وأن لها الحق في أن تحمل إلى مصر البضائع التي لا تدعم قوة المماليك الحربية لكن الباباوية تمسكت بموقفها في حظر كافة أشكال التعامل التجاري، وظلت الباباوية تتشدد في هذه المقاطعة والحظر ما يربو على العشرين عاماً ولم يحملها على تغيير موقفها إلا ما بذلته البندقية من أموال طائلة – وبعبارة أدق رشاوي – فأصدرت بعض التراخيص التي تجيز التعامل التجاري مع مصر مع استمرار حظر تصدير المواد التي تدعم قوتها العسكرية.

الإغارة على الموانئ المصرية

إذا كانت المصالح الباباوية تعارضت مع المدن الإيطالية فإنها لم تعدم وجود مؤيدين لسياستها في مملكة قبرص المسيحية التي كانت خاضعة آنذاك لأسرة آل لوزجنان وجمعت لفترة من الوقت بين تاجي قبرص وإمارة بيت المقدس الصليبية في عكا، وهو الأمر الذي جعلها تضطلع بدور في محاولة تأديب الدولة المملوكية وخنق اقتصادها، فدعا بطرس الأول ملك قبرص الدول الأوروبية في عام 1365 للمشاركة في تجريد حملة صليبية إلى الإسكندرية بقصد الإستيلاء على المدينة وتهديد طريق التجارة العالمي الذي يمر بها، وبارك الحملة البابا أوربان الثاني وجمع أموال الأديرة والكنائس للاستعانة بها في تجهيزها ووعد القساوسة أنه سيردها من غنيمته لأموال المسلمين، وما إن وصلت الحملة إلى الأسكندرية حتى قامت بنهب محتويات السفن الراسية في البحر، ولم تكتف بهذا بل هاجمت منازل الأهالي والتجار وقامت بنهب محتوياتها هي الأخرى بعد أن أشاعت الروع في قلوب المصريين.

واستمرت قبرص بعد هذه الغارة في الحرب الاقتصادية ومارس القبارصة أعمال القرصنة في البحر المتوسط وقطعوا الطرق على المراكب الآتية إلى دمياط والإسكندرية، وهاجموا التجار الأوروبيين الذين ظلوا يتاجرون مع مصر وأفلحوا في تجنيد نفر منهم للحصول على معلومات عن التحصينات بالسواحل والموانئ المصرية، ومواعيد وصول سفن التجار المسلمين، ودفعت كل هذه الأعمال العدائية المتكررة الدولة المملوكية إلى غزو قبرص والاستيلاء عليها عام 1426.

تطويق مصر من الجنوب

أضعف خروج قبرص من حلبة الصراع من إمكانية نجاح الحظر الاقتصادي عبر البحر المتوسط شمالاً، لذا حاول الصليبيون مد الحصار إلى البحر الأحمر جنوبا حتى تكتمل محاولات تطويق مصر اقتصاديا، ولم تجد البابوية أفضل من مملكة الحبشة المسيحية لتؤازرها في مخططاتها لذلك أرسل البابا عدة رهبان ومبشرين لإقناع ملكها بفرض حصار اقتصادي على مصر من الجنوب، وأقنعوه بالفعل بالانضمام إلى الشركاء الأوروبيين المحاصرين لها، واقترحوا قيام الحبشة باستغلال موقعها المتحكم في منابع النيل والعمل على تحويل مجرى نهر النيل إلا أن الاقتراح لم يلق قبولاً منه خشية رد الفعل المصري.

ظلت فكرة تحويل منابع مجرى نهر النيل تراود عقول الصليبيين فأرسل ملك اسبانيا الصليبي إلى ملك الحبشة عام 1450 يطلب منه تحويل مجرى النيل ومهاجمة مصر من الجنوب، ولاقت الفكرة قبولاً من البرتغاليين الذين شرعوا في الالتفاف حول أفريقيا في محاولة لاكتشاف طريق بديل لطريق مصر التجاري، وعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1498 طلب قائد الأسطول البرتغالي من ملك الحبشة إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور وحفر الأرض للعمل على تحويل مجرى النيل، ورغم أن هذه المشروعات لم يكتب لها النجاح إلا أنها تظهر مدى تصميم الأوروبيين الصليبيين على القضاء على اقتصاديات الدولة المملوكية قضاءً مبرماً، وهو ما يؤكد استمرار الحروب الصليبية  واستقرارها في شكل اقتصادي.

وأخيرا يمكن القول؛ إن فكرة الحصار الاقتصادي لم تنجح في خنق الاقتصاد المصري إلا بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذي تحققت معه أهداف الحرب الاقتصادية، وعلى الرغم من طول الطريق وكثرة تكاليفه مقارنة بطريق مصر القصير فقد أقبل الغربيون عليه وعزفوا عن المرور بمصر، واستطاعوا الحصول على الحاصلات الشرقية من الهند وإيران مباشرة، وهو ما ألحق خسائر فادحة بمصر وأضعفها عسكريا، وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح أسدل الستار بصورة نهائية على هذه الحروب التي اتخذت من الدين شعاراً لها لتخفي وراءه دوافعها المادية البحتة.