لم تدع الرقمية مجالا إلا تغلغلت فيه، وأثرت عليه، وكان الطعام أبرزها، فغيرت نوعيته، وتوقيت مائدته، ووسائل الحصول عليه، والكميات المُتناولة، وعادات الاستهلاك، وطرق التسويق، ففي العقود الأخيرة بات الشخص ينظر إلى طعامه من خلال الشاشة ويشتهيه، ثم يطلبه، ويلتهمه منفردا منهمكا لا يلتفت إلى من حوله.

والحقيقة أن علاقة الإنسان مع الطعام علاقة مركبة، فهو يتناوله للحاجة والمتعة، لكن الروح لا تريد أن تبرح تلك اللحظة  ليحتكرها الجسد بمفرده، وترغب أن يكون هذا الوقت لتبادل الأحاسيس والمشاعر والعلاقات، من خلال التواصل الانساني، عبر الحديث حول المائدة، ولذلك كان من سُنة الإسلام الحديث على الطعام.

وقضية العلاقة بين الرقمية والطعام ليست علاقة عابرة، ولكنها مدخل لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، والتي كان يلعب وقت الطعام فيها دورا مؤثر في ترميم القصور في الجانب الاجتماعي، وجذب أفراد الأسرة من اهتماماتهم وعزلتهم إلى مساحة للالتقاء والتفاعل، كما تلعب الرقمية دورا في تكوين الأجساد، فمع الرقمية أصبح البشر أكثر إطلاعا على فوائد الطعام، وبحثا عن الصحي والمفيد منه، لكن الأجساد تغيرت مع الشاشة، فارتفعت معدلات السمنة بصورة مذهلة خاصة بين المراهقين والشباب، وهو ما يعني أن العالم مقبل على تخمة وترهل.

الرقمية وهوس الطعام

يتجاوز عدد مستخدمي الانترنت في العالم الأربعة مليارات شخص، ومتوسط ما يقضيه الشخص على الانترنت يزيد على الساعتين يوميا، ومن هنا وجدت شركات التسويق الفرصة لتسويق منتجاتها للمهتمين، وأكدت إحدى الاستطلاعات أن 53% من المهتمين بموضوعات الطعام على الانترنت، يفضلون مقاطع الفيديو، و35% يفضلون الصور، وعلى سبيل المثال يُنشر حوالي 95 مليون صورة وفيديو يوميا على موقع Instagram وحده، ويشغل الطعام جزءا كبيرا من هذا النشر اليومي.

وقد استغلت شركات التسويق هذه المعطيات من عدة أوجه، أبرزها توسيع سوق توصيل الطعام من خلال الانترنت، والذي من المتوقع أن يصل إلى ما يقرب 365 مليار دولار بحول عام 2026، هذا الرقم يكشف أن المنزل لم يعد الحاضنة الأولى للطعام، وأصبح الفرد قادرا على اختيار طعامه، ليصله إلى باب بيته، ويتناوله في الوقت المناسبه له، وغالبا ما يكون منفردا، أي أن البيت تخلى بصورة كبيرا عن المائدة لصالح “الساندويتش” والوجبات السريعة، وأصبح المطعم بديلا للأم في إعداد الطعام، ومع إبتعاد الأفراد عن المائدة الأسرية وأحاسيسها وعلاقاتها، تعمقت الفردية والانعزال بين أفراد الأسرة.

فأشارت دراسة أن  ثلاثة أرباع العائلات البريطانية قد تخلت بالفعل عن الوجبات المنتظمة ، وأن  20 ٪  من العائلات لم يجلسوا معًا لتناول الطعام، وفي المجتمعات الغربية، التي زادت نسب من يعيشون بمفردهم، ووصلت في دولة مثل السويد إلى 51%،  فإن الاعتماد على الرقمية في الحصول على الطعام واختياره أصبح هو الأساس، لذلك ظهر مصطلح “موت مائدة الطعام”.

من ناحية أخرى تحفزت شهية الطعام من خلال الصور الجذابة للأطعمة، وأشارت دراسات أن الإشارات البصرية للغذاء، تلعب دورا في تحفيز  “الجرلين” Ghrelin Hormone  أو هرمون الجوع،  ومن ثم يتم التحكم وتوجيه ذلك الهرمون من خلال الصورة، التي تحفز أماكن تشهي الطعام في الدماغ، إذ تؤدي صور الطعام الشهي إلى استجابات فسيولوجية، وهو ما يجعل الصور قادرة على خلق الهوس بالطعام وإساله اللعاب عند مشاهدتها.

كما أن بث الكثير من الفيديوهات والصور لأفراد يقمون بإعداد وتناول لكميات ضخمة من اللحم، مع إستخدام المؤثرات الصوتية لصوت الشوي، وبريق الصورة وألوانها الجذابة، أن دفعت المتابعين لذلك البث للسخط على طعامهم المتواضع، وأن ينظروا إليه بإزدراء، وصار ذلك الطعام مجالا  للتحسر على الحال وندب الحظ، وهو ما قلل الشعور بالرضا، وقلل كلمات الحمد، غابت البركة عن الطعام.

الرقمية والسمنة

استطاعت الصورة الرقمية أن تسيطر على شهية الصغار والمراهقين، وتوجه شهيتهم إلى أطعمة بعينها تؤثر سلبا على صحتهم، وتزيد من أوزانهم وسمنتهم، خاصة إذا علمنا أن ثلث مستخدمي الأنترنت من الأطفال، وهؤلاء متصلون بالانترنت أكثر من (15) ساعة في الأسبوع، وأغلبهم يتناول طعامه وهو منهمك أمام الشاشة، وهو ما يفقده الإحساس بالشبع أو حتى بتذوق الطعام، فنجده يسرف في الأكل دون وعي أو إدراك أو ممارسة للرياضة.

وقد أصبحت تلك الأجيال مستهدفة باعلانات الطعام، وتشير دراسة كندية شملت عشرة مواقع اليكترونية يستخدمها المراهقون، أعمارهم ما بين 17:12 عاما ، أنه تم بث (14.4) مليون إعلان في عام واحد عن البسكوت والأيس كريم، وأن غالبية تلك الاعلانات روجت لأطعمة غير صحية، ومن ثم كان تعرض هؤلاء المراهقين بكثرة للأنترنت من أسباب استهدافهم بقوة بتلك الاعلانات المتواصلة والمتكررة.

وأفادت دراسة امريكية أن 88% من البالغين الذين شملتهم الدراسة، تناولوا الطعام أمام الشاشة، وأفاد آخرون أن خمس وجبات فقط من طعامهم خلال الأسبوع كانت خالية من مشاهدة الشاشة، وهو ما يعني أن تناول الطعام عند الكثير لا يمر عبر العملية الإدراكية، ولا يؤثر على العلاقات التفاعلية بين الأفراد، وأن ملأ المعدة يتم بطريقة شبه آلية، بلا إحساس أو مشاعر، لذا كان الأكل بلا شبع أو ارتواء.

 وأكدت دراسة اخرى أن اضطرابات الأكل العالمية كانت عام 2012 3.4%، لكن في العام التالي وصلت إلى 7.8%، أي أن أكثر من (70) ملين شخص يعانون من اضطرابات في الطعام، وتتراوح تلك الاضطرابات ما بين فقدان الشهية أو الشره الشديد للطعام،  كذلك تروج الرقمية لاقتران الجسم المثالي بالطعام كمية ونوعية، وتنتشر النصائح والإرشادات، وبعضها من غير المختصين، وهو ما ينعكس على العلاقة بين الشخص والطعام، ومن ثم حولت الرقمية الطعام إلى وسيلة للحصول على الجسم المثالي.

وتشير الاحصاءات العالمية أن هناك 650 مليون شخص يعانون من السمنة حول العالم، أي حوالي 13% من البشر، وأن هذه النسبة أخذت تتزايد في المراهقين في العقود الأخيرة، ففي الولايات المتحدة يعاني 40% من البالغين من السمنة، وفي بريطانيا تزيد النسبة على 25%، وهذه السمنة تفتح الباب أمام أمراض متعددة بدنيا ونفسيا، وتشكل عبئا على الاقتصاد، وقد ربطت بعض الدراسات بين الرقمية وبين السمنة للمراهقين، من حيث تأثير ووقت الشاشة والتأثير على السلوكيات الغذائية والنشاط البدني.

أما الإسلام فكانت فلسفته واضحة، في هذا الشأن، فوقت الطعام فرصة لتقوية العلاقات وتدعيم الأواصر، ونسج الدف بين الأفراد، وفرصة للتعلم واكتساب الخبرات، والتذكير بنعمة الخالق سبحانه وتعالى في الرزق والصحة والأمن، لذلك كان من السنة الاجتماع على الطعام وفي الحديث الشريف، سأل الصحابة النبي فقالوا: يا رسولَ اللهِ إنَّا نأكلُ ولا نشبعُ. tسألهم النبي :” تجتمعون على طعامِكم أو تفترقون” فقالوا: نتفرَّقُ. فقال لهم: اجتمِعوا على طعامِكم واذكروا اسمَ اللهِ تعالَى يُبارَكْ لكم فيه”. (رواه أبو داود).