تكملة الجزء الثانى لما مرّت به هذه الأمة من  فتنٌ عاصفة، قد زلزلت كيانه من الداخل. أمّة حديثة عهدٍ بـ: دين، ووحدة، ودولة، فجاءت الفتن الكبرى في: الدين والوحدة والدولة.

وكان من الأحرى أن يتم الحفاظ على هذه المكتسبات التي جعلت من تلك القبائل العربية المشركة المتناحرة المتنافرة أمة لها ما يميزها بين الأمم، لكنّ نفرًا لم يستوعب هذا التغيير، ولم تستسغ أنفسهم أن تعيش في ظل نظام رباني ودولة جامعة وأخوّة صادقة متينة.

3- الاقتتال بين الصحابة

كان قتلُ ذي النورين بابَ شرٍّ عظيم فُتِح على المسلمين؛ فقد اهتزت دولة الخلافة بأيدي أبنائها، وليس على يد أعدائها، وانقسم المسلمون انقسامًا خطيرًا.

وفي وسط هذا الانقسام تمت البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب على كُرهٍ منه، قال ابن كثير: “لما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين على المشهور، عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان، وقيل: بعد دفنه، وقد امتنع عليّ من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له، وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاءوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب”([1]).

فتسلم أمير المؤمنين عليّ السلطة والفتن تضرب المسلمين من كل جانب، وما خاف منه أمير المؤمنين عثمان من أن تُسفك دماء المسلمين بسببه، إذا بهذا الأمر يقع، وقع ما خاف منه وبذل مهجته في سبيله.

تسلم أمير المؤمنين سلطة منقوصة من ناحيتين:

أ- من ناحية من قبِل بيعته

ب- ومن ناحية من رفض بيعته

فأمنا عائشة وسيدنا الزبير وسيدنا طلحة قبلوا البيعة؛ لكنهم لم يروا رأي الأمير في تأخير القصاص، وسيدنا معاوية رفض بيعته من الأساس حتى يأخذ بالقصاص أولاً.

وانحاز السيدان طلحة والزبير إلى البصرة، واستعصم سيدنا معاوية بأهل الشام وامتنع عن تسليم ما بيده لعامل أمير المؤمنين علي.

والدول تقوم على النظام، والخروج على النظام يُقابل بالحزم، وأعلى درجاته استخدام السيف لرد الخارجين إذا لم ينفع النصح واللين.

وللأسف لم يكن الخروج فرديًّا، بل أصبح خروجًا مسلحًا ذا شوكة ومنعَة، فما كان من الإمام إلا ردّ هؤلاء وكسر شوكتهم بالصلح أو بالسيف.

فكانت البداية بمحاولة رد طلحة والزبير وفعلاً قبل الأطراف المصالحة، لكن هناك طرف ثالث لم يقبل ذلك، يقول الطبري: “لما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير فتواقفوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما، ما خلا أولئك الذين هضّوا([2]) عثمان.

فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر”([3]).

فوقعت المعركة بين الطرفين، وكانت معركة الجمل، وهي أول صدام مسلح بين فئتين من المسلمين، قُتل فيها كبار الصحابة.

ثم كانت الرسل بين أمير المؤمنين علي وسيدنا معاوية لإيقاع الصلح، ومن هؤلاء الرسل أبو الدرداء وأبو أمامة اللذان دخلا “على معاوية فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل؟! فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله r، وأحق بهذا الأمر منك.

فقال: أقاتله على دم عثمان، وأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان، فمن شاء فليرمنا”([4]).

فوقعت المعركة بين الفئتين المؤمنتين معركة صفين، وهي ثاني معركة بين المسلمين، وكثر فيها القتل بين الطرفين، وراح فيها الكثير من الأعيان.

4- طلب التحكيم

بعد طول الصراع في معركة صفين “توجه النصر لأهل العراق على أهل الشام وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح، وقالوا: هذا بيننا وبينكم، وقد فني الناس فمن للثغور، ومن لجهاد المشركين والكفار”([5]).

ففي معركة الجمل كان الصلح أولاً بين المسلمين إلا أن المندسين أوقعوا الحرب بين الطرفين وأفسدوا الصلح، أما في معركة صفين فالصلح بحث عنه القوم عندما رأوا أن الكفة مالت للإمام علي.

ولما طلب أهل الشام الصلح ورفعوا المصاحف وطلبوا تحكيمه دخل الشقاق والاختلاف في فريق الإمام علي؛ إذ رأى الإمام علي أن يُتم الأمر بكسر شوكتهم، لاسيما وأنهم قاب قوسين أو أدنى من النصر، وتوحيد شمل الدولة، وإخضاع الجميع تحت سلطان الخلافة، إلا أن القرّاء (الخوارج فيما بعد) رفضوا ذلك، ودفعوا الإمام علي للقبول بالتحكيم.

فقد قال قائلهم: “يا علي، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان؛ إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك”([6]).

وهنا مشكلة عظيمة جدًّا، وهو أن يكون للأغرار كلمة في مجريات الأحداث العظيمة، وتوظيف العاطفة الدينية في غير موضعها.

فهؤلاء لا يفهمون في السياسة، ثم إذا بهم يعترضون على أميرهم وقائدهم، فلا هم يفهمون في أصول الحكم، ولا أصول السياسة، ولا حتى أصول الدين، فهم سطحيون في كل أحوالهم وتصوراتهم، ومع تلك السطحية كان الغلو والتشدد في المواقف والأفكار والأحكام.

5- التكفير

تحول الخلاف السياسي إلى خلاف اعتقادي؛ فبعدما رأى القراء نتيجة التحكيم ولم تعجبهم، لم يلوموا أنفسهم وسذاجتهم، بل لاموا القيادة، حتى قال قائلهم: “ذهب عليّ ورجع في غير شيء. فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء”([7]).

ثم راحوا يكفرون الجميع بلا استثناء؛ فكفروا عليًّا ومعاوية وعائشة وعثمان، وراحوا يقاتلون عليًّا بعد أن كانوا من جنده، ثم أخذوا يخططون لقتل أمراء المسلمين من الطائفتين، وتمكنوا من قتل الإمام علي.

والقتال بين الصحابة لم يكن بصيغة دينية، بل اجتهاد سياسي؛ فقد “سئل علي بن أبي طالب t -وهو القدوة- عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟

قال: لا، من الشرك فروا.

فقيل: أمنافقون؟

قال: لا؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.

قيل له: فما حالهم؟

قال: إخواننا بغوا علينا”([8]).

على عكس الخوارج الذين جعلوا المخالف لهم كافرًا حلال الدم، وتشددوا مع المسلمين، وتساهلوا مع الكفار.

ويمكن استنباط قاعدة من هذه الأحداث، وهي: الكفر ليس موجبًا من موجبات القتال، والإيمان ليس مانعًا من موانع القتال.

أخيرًا

إن هذه الفتن الكبرى ما زالت آثارها باقية في الأمة، بل ومتجددة حتى قيام الساعة.

فالخلاف بين المسلمين واختلافهم سنة الله الماضية في هذه الأمة، وما يستتبع هذا الخلاف من اقتتال، ولا يقف الأمر عند الاقتتال الدنيوي، بل الادعاء بالحرمان من النعيم الأخروي بتكفير المخالف.

وقد تقل الفتن في عصر، وتعظم في آخر، لكنها لا تنمحي أبدًا.

ويبقى أن المعصوم من عصمه الله -تعالى، والناجي هو من لم يقع في الأموال والأعراض والدماء المعصومة.


([1]) البداية والنهاية، (7/252-253).

([2]) أي: قتلوه.

([3]) تاريخ الطبري، (3/39) باختصار.

([4]) البداية والنهاية، (7/260).

([5]) السابق، (7/273) باختصار.

([6]) السابق، (7/274).

([7]) السابق، (7/279).

([8]) تفسير القرطبي، (16/323-324).