في وصف الله تعالى لجماعات من الناس عبرة لمعتبر، من الذين عطلّوا مداركهم المختلفة، وخاصة معبر السمع الذي ورد في القرآن مقدّما على البصر دوما، لأنه الوسيلة الكبرى لمنفذ القلب العاقل، ولذلك جاءت الآية مندّدة بهؤلاء الذين لا يسمعون، أو يسمعون ولكنهم لا يجيدون حسن الاستماع والإصغاء : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } (الأنفال، 20-21).

فحالهم ما وُصف في الآية الأخرى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } (يونس،42-43).

إنها معادلة غريبة في وجود هذه الحاسة دون إعمال حقيقي لها، فيما يمكن التعبير عنه بالعطالة عن الاستماع، ولو سحبنا الأمر على حياتنا فإن أكبر مشاكلنا مناطة بسوء الاستماع والتواصل مع الآخر، أو الإفادة من جميل ما عنده. ولذلك يكثر الخصام ويشيع الصراخ ويذيع الجدال ويسود المراء في بيوتنا ومجالسنا، وكثيرا ما يشكوا الآباء من عقوق أبنائهم وعدم إصغائهم لهم، وينسون أنهم ابتداء لم يحسنوا الاستماع لأولادهم، فالصغير يُقمع دوما لأنه ما أوتي من العلم إلا قليلا.

حسن الاستماع والإنصات والإصغاء فضيلة كبرى نتعلّمها من الله الكبير المالك الذي لا معقّب لأمره ولا راد لقضائه حينما استمع لإبليس الرجيم في حججه المرذولة عندما رفض السجود لآدم، وقد ذُكر هذا الحوار في سبعة مواضع من القرآن الكريم.

وضرب المصطفى عليه السلام المثل الرائع في حسن الاستماع والإصغاء للآخرين كافرهم ومؤمنهم، صالحهم وطالحهم، ذكرهم وأنثاهم، حرّهم وعبدهم، فكان المثال الأعلى في تجسير العلائق مع الآخرين واستيعابهم، والانتفاع بالصالح  عندهم، ففي مكة كان مستمعا جيدا لترهات قريش وجدلهم، وهم قوم خصمون، فلما جاءه عتبة بن ربيعة مُوفدا من قريش لإدارة مفاوضات تنهي الاحتراب والخصام تركه النبي يعرض ما عنده من اقتراح مغريات الملك والجاه والمال والتطبيب، وبعد ذلك قال له: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، ثم تلى عليه أوائل سورة فصلت.

وفي موقف آخر للاستماع الجيد من المصطفى لأقوال خصومه، وهو  الحريص على إيمانهم، جاءه عبد الله بن أم مكتوم يستقرئه القرآن، فأعرض عنه  النبي حرصا على إكمال الحوار مع المحادين، فنزلت سورة عبس معاتبة المصطفى في تركه الاستماع لابن أم مكتوم، والذي كان فيما بعد كلما لقيه يقول له: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي.

وفي المرحلة المدنية استمر المصطفى على المهيع نفسه في حسن الاستماع لمختلف مكونات مجتمع المدينة، وهو القائد والإمام والقاضي، فعندما يختصم الخصوم لديه يذرهم يستفرغون كل حججهم ومرافعاتهم، وعلى الرغم من سوء أدب البعض، فقد ورد في ترسيخ فضيلة الاستماع:” أن رجلا تقاضى النبي فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا”(البخاري، 2260).

وينزل المصطفى السوق، فتستوقفه العجوز، فينصت لها مستمعا ولا يدعها حتى يقضي حاجاتها، وعادة النساء الاطناب في الكلام، ويروي عدي بن حاتم الطائي هذا المشهد المخالف لمأثور السادة والكبراء، فيقول ما يكون هذا بملك؟ أما في زماننا فإن بعض من يملك السلطة التي خول بها لخدمة الغير، فتراهم يحتجبون أو يغلقون أبوابهم أيام الاستقبال المُعلن عنها بحجة أنهم غائبون، أو مجتمعون، ولتذهب مصالح الناس إلى الجحيم.

وتأتي المرأة المهيضة الجناح المكسورة الخاطر للمصطفى شاكية باكية، فيصغي لها كما في قصة المجادلة: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة، 1).

ويأتيه الشاب مستأذنا في الفاحشة، ويكاد الصحابة يضربونه لانتهاكه الحرمة، ولكن النبي يدنيه ويستمع إليه، ويقول مداويا هذه الرغبة في الانحراف: أترضى الزنا لأمك، لأختك، لعمتك؟، فيقول الفتى: لا أرضاه، يقول: كذلك الناس لا يرضون” (أحمد، 22211).

ويأتيه الأعراب الغلاظ الجفاة صارخين: أيكم ابن عبد المطلب؟ فيرضيهم النبي بما استطاع من جميل القول، أو مديد العطاء إن كان عنده، فيقول قائلهم: جئتكم من عند خير الناس.

ولكثرة استماعه للأطياف المختلفة عابه المنافقون: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } (التوبة،61).

لم يكن النبي ليترك سمات القائد الذي يهتم بأمر الجميع، بل كان دائم اليقظة حاد البصيرة في استيعاب المشاكل القائمة والطارئة، وما تأتّى له ذلك إلا بالانخراط في حياة أصحابه الذين لم يترفّع عنهم، وإنما كان واحدا منهم لم يتميّز في ملبس أو مأكل أو مجلس، فيأخذ في حديث الدنيا إذا خاضوا، أو يستذكر مع زوجاته أخبار الجاهلية كما هو الوارد في حديث أم زرع، وهكذا شأنه مع أصحابه الذين قاسمهم أفراحهم وأتراحهم، وميزة المصطفى هو القدرة على استيعاب الجميع مؤمنين سابقين أو مقتصدين أو ظالمين.

 إذ أن التميز المظهري أو الحياتي خطر عظيم تظهر عقابيله المشينة بعد حين، وأول أخطاره أنه يسدّ منافع الاستماع، وتجد شواهده حاضرة في حياة بعض الأئمة والربيين والرهبان الذين يظنون أن الاختلاط بالناس منقصة في أقدارهم، فتراهم لا يستمعون إلا لأنفسهم، فلا يفيدون ولا يستفيدون.

حسن الاستماع في القرآن والسنة

وفي النصوص القرآنية والنبوية تشديد على حسن الاستماع والإصغاء في مواطن مهمة منها:

  • الجمعة: فمن أركانها الانصات للإمام الخطيب،  ففي الحديث:” من اغتسل يوم الجمعة وتطهّر بما استطاع من طهر، ثم ادهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى” (البخاري،868])، والحال أن المسلمين يسمعون آلاف الخطب، ولكنهم لا يفيدون منها لغياب دربة حسن الاستماع، فضلا عن شيوع  مقالات المبتدعة الجدد الذين يحذرّون الناس من الحضور أو الاستماع لفلان أو علان، لأنه ليس على منهجهم في التبديع والتجريح، في حالة مذكرة بصنيع كفار قريش: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ( فصلت، 26).

  • مجالس العلم: التي يتوجب على مرتاديها حسن الاستماع، وترك المراء الدال على خفة الطبع ورعونة النفس، فضلا عن المقاطعة التي تضيع فيها فائدة الحوار، والتي هي من مداخل الطغيان المهلك. ومما أثر عن السلف في حسن الاستماع  للأغيار ولو كانوا صغارا ما ورد عن عطاء قال:” يحدثني الشاب حديثا، فاستمع له كأني لم أسمعه، وإني سمعته قبل أن يولد”. والمثال القدوة هو سيدنا محمد ، والذي “كان إذا لقيه أحد من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه” (صحيح الجامع، 4780). فحسن الاستماع والاستيعاب منطلق المعرفة الصحيحة الموصلة للحق والهداية، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألباب} (الزمر،18).