يخطئ من يظن أن الهويات ستختفي من الحياة. الهويات الدينية والاعتقادية والقومية واللغوية والثقافية يرثها الإنسانُ من عائلته ومجتمعه. المشكلة ليست في الهوية، المشكلة عندما تنغلق الهوية وتتصلب، وتشعر بالاصطفاء والتفوق، وتنفي المختلِف. لا هويةَ مكتفية بذاتها، لا يثري الهويةَ إلا انفتاحُها، وديناميكيتها وقدرتها على إعادة التشكل، عبر التفاعل واستيعاب وتمثل العناصر الحيوية في الهويات والحضارات الحيّة. الهوية الحيّة في صيرورة متجدّدة، تتسع لاستيعاب الاختلاف والتنوع، في إطار العيش المشترَك المؤسَّس على الاحترام المتبادَل.

قلق ضياع الهوية، والحنين حدَّ الشغف بالماضي يجفف منابعَ التفكير الفلسفي. هذا الحنين يفضيان للمزيد من الانهماك في مشاغل التراث والغرق في حقوله، وتقليد القدماء في كل شيء، ومع التقليد يفتقد العقلُ لوظيفته في أن يكون عقلًا، ويكفّ التفكيرُ عن أن يكون تفكيرًا. مَن يريد أن ينتمي للعصر خيارُه واضح، ومن يريد أن ينتمي للماضي خيارُه واضح. أما إسقاطُ كلِّ ما يغوينا ونتمناه اليوم على نصوصِنا الدينية وتراثِنا البعيد والقريب فهو ضربٌ من تعطيل العقل النقدي والكفّ عن التساؤل والتفكير.

الفلسفة تعني حكمَ العقل لا غير. مرجعيةُ الفلسفة هو العقل في كل قضية إثباتًا أو نفيًا. لا يكون التفكير فلسفيًّا إلا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيديولوجيات والهويات. كل الأُطر المقيِّدة للتفكير العقلي تمارس تمويهًا بعناوين مراوغة عبر الأدب والفن، وأخطر أشكال التمويه عندما تتخفى المعتقداتُ والأيديولوجيات والهويات، وتفرض أحكامَها وراء قناع الفلسفة والمعرفة والعلم. كتابات كثيرة يمكن تصنيفها علم كلام لا فلسفة، وإن اتخذت لها عناوين فلسفية. عندما يفكر العقلُ في إطارٍ العقيدة، يتحول تفكيرُه إلى لاهوتٍ متنكِّر، ما يعني أن محاولات “أسلمة الفلسفة” ضربٌ من التفلسف ضد الفلسفة. أسلمة الفلسفة تعني اقحام الفلسفة داخل الهوية الاعتقادية، والفلسفة تفكير عقلاني نقدي يتمرد على الهويات والمعتقدات بمختلف تعبيراتها، ولا يحدّه سقف، ولا يقع داخل إطار خارج العقل، ولا يمتنع من إثارة الأسئلة أيًّا كانت، ويجيب عنها وفقًا لما ينتهي إليه العقلُ لا غير.

لا يصح تصنيف الفلسفة تبعًا لهويتها الاعتقادية، الفلسفة لا هُويةَ اعتقادية لها، الفلسفة مشترَك عقلي، الفلسفة لا تقبل التجنيس الاعتقادي والتصنيف الهوياتي. التجنيس الاعتقادي يعلن عن هوية دينية للفلسفة. أية محاولة لتقييد العقل بديانة سماوية أو أرضية أو أي معتقد تعطل العقل عن التفلسف. التفلسف يعني عدم تقييد حرية التفكير، وعدم وضع أية مرجعية للعقل غير العقل. وذلك ما يدعونا لتصنيف مضمون كل كتابة تدعي أنها فلسفية، لكنها تتموضع في إطار أية ديانة أو معتقد، على أنها علم كلام وليس فلسفة، وإن كان عنوانها فلسفيًا لا عقائديًا.

العقل الكلامي مرجعيته النص وإن اتخذ مقدمات عقلية، لذلك لا يُفكِّر هذا العقل بتفسير ذاته وتحليل حقيقته، ولا يفكِّر بطريقة فهمه، ولا يفكِّر بكيفية تفكيره، وقيمة تفكيره، ولا يمحّص تفكيره ويختبره. ولو عاد هذا العقل للعقل يعود للعقل الكلامي، وينتهي إلى اتباع متكلم وتقليده، ويغالي في الإعلاء من قيمة منجزه، ويتنكر لمنجز غيره مهما كان أثره في تاريخ الفكر الديني. فينغلق العقل على ذاته، ويؤول مصير التفكير العقلي إلى تعطيل التساؤل والتفلسف والاختلاف.

العقل الكلامي غير العقل الفلسفي، العقل الكلامي ينطلق من مسلَّمات سابقة. العقل الفلسفي عقل كوني، عابر للهويات القومية والاعتقادية والدينية واللغوية والثقافية. القراءة اللاهوتية للفلسفة تنتج لاهوتًا، القراءة الكلامية للفلسفة تنتج علمَ كلام، القراءة الفقهية للفلسفة تنتج فقهًا، القراءة الأيديولوجية للفلسفة تنتج أيديولوجيا، القراءة الهوياتية للفلسفة تنتج هوية، لا ينتج الفلسفةَ إلا التفكيرُ العقلي، والقراءةُ الفلسفيةُ للفلسفة. التفكير الفلسفي لا ينطلق من مسلّمات سابقة، أو مواقف قبلية جاهزة، أو تحيزات واعية، مهما كانت.

التفكير الفلسفي يبحث الوجود من حيث هو وجود، التفكير الفلسفي يبحث الحقيقة من حيث هي حقيقة، التفكير الفلسفي يبحث الإنسان من حيث هو إنسان، بمعنى أن التفكير الفلسفي يبحث الكينونة الوجودية المشتركة للإنسان التي لا تتغير بتغير الظروف والواقع والزمان والمكان.

ما ينقل الذهنَ للتفكير خارجَ الأسوار المغلقة هو التفكيرُ والكتابةُ الفلسفية التي تدعوك للتفكير ضدّها. لا تظهر قيمةُ التفكيرِ والكتابةِ الفلسفية بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ مكرّرة. تعلن الكتابةُ الفلسفية عن قيمتها بقدرتها على تحريض العقل على توليد أسئلة عميقة، يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والتفكير غير المتعجِّل.

الفلسفة تحمي العقلَ من أن تفتك به الأوهامُ، وتسكنه الخرافات، وما تفضي إليه من تشوهاتٍ في رؤية العالم. لعلّ من أهم ما نترقبه اليومَ من فلسفة الدين في مجتمعات عالم الإسلام أن تكتشف خارطةَ ما هو دنيوي وما هو ديني، وترسم الحدودَ الخاصة بكلّ منهما، وتبين المجالاتِ التي يتحقّق فيها الدنيوي، والمجالاتِ التي يتحقّق فيها الديني، والآثارَ الناجمة عن اختلاطِهما واجتياحِ أحدهما للآخر. لو ابتلع الدينُ الدنيويَّ يحتجب العقلُ ويدخل في حالة سبات، ويضيع الإنسانُ في ظلمات بعضُها فوق بعض، ولو ابتلع الدنيويُّ الدينَ تحتجب الروحُ وتدخل في حالة سبات، ويضيع الإنسانُ في القلق واللامعنى.

لا تجديد من دون تفكيرٍ فلسفي يخترق كلَّ الأسوار التاريخية المعيقة للتساؤل والتفكير النقدي، ويتحرّر من أية إكراهاتٍ لاهوتية، وأنساق راسخة تقلّد الماضي كما هو. التفكير الفلسفي الذي يخرج من أسوار العقل التاريخية يهزم ممانعةَ التقليد، ويكفل إنتاجَ رؤية تواكب صيرورةَ الواقع المتغير، ويفكّر في آفاق الغد أكثر مما يفكّر في استئناف الماضي، ذلك أن نموذجَه الملهِم يترقب أن ينبثق في صورة الغد، لا أن يتكرّر في صورة الماضي. يعتقد هيغل أن “ما يميز الحداثة كونها مرحلة تاريخية جديدة، لا تبحث عن أصول لها في حقب سابقة مثلما فعل فكر النهضة، ولا تربط نفسها بأي حادثة سابقة تجد فيها ما يبرر وجودها، بل تأخذ الأحداث الحاضرة على أنها نقطة الانطلاق، التي ينظر بها إلى كل من الماضي والمستقبل”.

أخشى على عقول التلامذة من الاضطراب والتذبذب والتلبيس في تلقي وفهم الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، عندما نصرّ على تعليمِهم الفلسفةَ والعلومَ الإنسانية عبر قوالب وأوعية مقولات التراث. الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة تتحدث لغةً لا تنتمي لأفكار ماضينا وأكثر ما يتحدث به حاضرُنا.

أيُّ ضربٍ من التبسيط في التعاطي مع الفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة لهو تواطؤٌ مع الجهل. تعلّمُ الفلسفة والعلوم الإنسانية يتطلب الدخولَ من أبوابها، فلا يمكن أن تكون طبيبيًا بمطالعةٍ عشوائية للمقرّرات التعليمية في كلية الطب، وإن طالعتَ ألفَ كتابٍ مرجعيّ في الطب، وهكذا لا يمكن أن تصبح متخصّصًا في الفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وكانط أو هيغل أو هوسرل أو هيدغر بمطالعاتٍ عشوائية لكتاباتهم.

الفلسفةُ الغربية، والألمانيةُ منها خاصةً منذ كانط، كان لها تأثيرٌ حاسمٌ في رسم اتجاهات اللاهوت والفكر الديني الحديث في الغرب، وهي فلسفةٌ دقيقةٌ، شديدةُ التركيب والوعورة، حتى وإن بدتْ لأول وهلة في متناول القارئ غير المتمرّس، فإنه يخدع عقلَه، لأنه لم يتأمل النسيجَ الغامضَ لمفاهيمها، إنها لا تبوح بأسرارِها بقراءةٍ عابرة، أو نظرةٍ عاجلة، بل يتطلّب الفهمُ والاستيعابُ الدقيقُ لأحد اتجاهاتها سنوات طويلة من الدراسة على يد خبراء، كما يتطلّب تفكيكُها ونقدُها وغربلتُها الكثيرَ من المطالعات المتبصرة والنقاشات الصبورة. يتعذّر فهمُ ديالكتيكِ هيغل وأكثرِ الفلسفة الحديثة بعقلية أرسطية، وهو ما سقطت فيه محاولاتُ فهم جماعةٍ من دارسي هذه الفلسفة ممن تعلموا المنطقَ الأرسطي وتشبَّع وعيُهم في مدارات براهينه وأشكال قياساته، وتمرّسوا في استعمال أدواته في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية.

كلُّ محاولةٍ للفهم تفكر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الغربية الحديثة سيفضي فهمُها إلى نتائجَ تفرضها مقدّماتُ براهين المنطق الأرسطي وأشكالُ قياساته. يحدّثنا إمام عبد الفتاح إمام، عن تجربته مع هيغل، وهو أبرز متخصّصٍ في فلسفة هيغل، ومترجم الكثير من أعماله وما كُتب عن فلسفته للعربية، فبعد أن تخرّج ونال شهادةَ الليسانس فلسفة قرّر أن يدرس في الماجستير “الجدلَ في فلسفة هيغل”، لكن تعذّر عليه فهمُه لعامين متواصلين، ويفصح هو عن السبب في ذلك بقوله: (هكذا بدأت أدرس هيغل، فبدأت أجمع مؤلفاته من ثلاثة مصادر: المكتبات، مكتبة جامعة القاهرة وعين شمس، الزملاء من الخارج، وشراء ما أجده. وأدرس اللغة الألمانية.

كان أول كتاب عثرت عليه هو: “ظاهريات الروح”. شرعت أقرأ نصوص هيغل لمدة عامين دون أن أفهم شيئاً، فلجأتُ إلى التفسيرات والشروح، لكني لم أتقدّم خطوة واحدة. ولم تكن صعوبةُ الفهم راجعةً إلى وعورةِ المصطلحات، وهي وعرة فعلاً، ولا إلى صعوبةِ الفلسفة الهيغلية، وهي صعبة فعلاً، ولا إلى اللغة، وإنما كانت تعود إلى عامل لم أتبيَّنه بوضوح إلا بعد فترة طويلة، وهو أنني أقدمتُ على قراءة هذا الفيلسوف بعقلية أرسطية. بمعني أنني كنت أفهم جميعَ المصطلحات الفلسفية التي استخدمها هيغل على نحو ما فهمها المعلّم الأول، ومعاجمنا الفلسفية مدينة للفلسفة اليونانية، ولأرسطو خصوصًا، بالشيء الكثير).