ها قد هلّ علينا شهر رجب، ونحن نعيش أيامه الأولى، شهر الله المعظم، شهر “مضر” الذي كان العرب قديما يسمونه “منصل الأسنة”، حيث ينزعون فيه الأسنة من الرماح؛ توقيا للقتال، الشهر الذي كان يسمى بـ “الأصم” لأنه لا يُسمع فيه صوت السلاح (التفسير الوسيط للزحيلي: 1/ 502).

إنه أحد الأشهر الحرم الأربعة (رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) التي جعل الله سبحانه وتعالى حرمتها ممتدة على مر تاريخ الأنبياء من أجل إتاحة الفرصة للناس ليلتقطوا فيها الأنفاس؛ ويأمنوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بعد أن عمت البشرية الحروب، وساد بينهم القتال والاعتداء، وتكون فرصة لإعادة التآلف والتحاب بين أبناء البشرية؛ وحل المشاكل المتراكمة التي صارت تؤدي بين الحين والحين إلى التقاتل والبغي والظلم.

مكانة الأشهر الحرم عند العرب في الجاهلية

ظل العرب الذين حافظوا دون غيرهم من الأمم على إرث إبراهيم عليه السلام ـ رغم جاهليتهم وما انتشر بينهم من وثنية ـ يعظمون تلك الأشهر وحرمتها، ويحرمون الاعتداء فيها تحريما صارما؛ حتى إن الرجل منهم لو لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه.

  • قال قتادة: “كانت هذه الحالة (حالة التزام العرب بحرمة تلك الأشهر) في الجاهلية حواجز، كان الرجل لو جر (ارتكب) جريرة، ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول (يعتدى عليه)، وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يمسه، وكان الرجل لو لقي مقلدا وهو يأكل القضب من الجوع لم يمسه، وكان الرجل إذا أراد البيت الحرام تقلد قلادة من شعر حتى يبلغ مكة، وإذا أراد أن يصدر من مكة تقلد قلادة من لحاء السمر أو من الإذخر، فمنعته حتى يأتي أهله” (تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 507).
  • وقال الخليل: “كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا، أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر، فلا يبدؤه بشر” (تفسير الألوسي: 10/ 7).

ولشدة تعظيمهم لها أطلقوا على المعركة التي وقعت فيها بين قريش وبعض القبائل العربية “حرب الفجار”، يقول الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل 3/ 92):

“وإنما سمت قريش الحرب التي كانت بينها وبين غيرها ‘عام الفجار’ لأنها كانت في الأشهر الحرم حيث لا تقاتل، فلما قاتلوا فيها قالوا: قد فجرنا، فلذلك سموها: حرب الفجار”.

دور الأشهر الحرم في نشر الدعوة الإسلامية

بل إن احترام العرب في الجاهلية للأشهر الحرم كان من الأسباب التي أتاحت للنبي نشر دعوته خارج مكة المكرمة، فلم يكن يتاح له ولا للمسلمين “الاختلاط بالناس والتحدّث إليهم إلا في الأشهر الحرم، حين يفد العرب إلى مكة حاجين، وحين تضع الخصومات أوزارها، فلا قتل ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام.. فكان ينزل إلى العرب يدعوهم الى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عقابه” (خالد محمد خالد: حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ص: 124).

تعظيم الإسلام للأشهر الحرم: قيام للناس وأمن للحجيج

ولما جاء الإسلام زاد من تلك الحرمة؛ لأن رسالته غايتها المحافظة على النفس البشرية وتهيئة الجو المناسب لأداء الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي عبادة الله عز وجل وتعمير الأرض وفق إرادته ومشيئته، وهذا لا يتحقق إلا بتوفير الأمن والطمأنينة للجميع، ومنع التقاتل والظلم والبغي بغير الحق، فقال سبحانه وتعالى:

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذلك لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].

وأعاد التأكيد على مزية تلك الشهور من بين سائر شهور العام بتحريم سفك الدماء والاعتداء وسائر المنكرات فيها، وإن كانت تلك الأمور محرمة على الدوام إلا أن حرمتها تزداد في تلك الشهور، وتزداد العقوبة وتتضاعف على من ينتهك حرمتها، فقال سبحانه وتعالى:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.

ومعنى “لا تظلموا فيهن أنفسكم” أي بالقتل وسفك الدماء والاعتداء والبغي، يقول ابن عباس: فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد باستحلال الحرام والغارة فيهن (تفسير البغوي: 2/ 345).

ومن فضل الله تعالى أن توزعت تلك الشهور لتشمل في داخلها حوالي 60% من أشهر العام كله (بإضافة الأشهر الحرم إلى أشهر الحل المحصورة بينها) فجاء رجب المفرد شهر الله المعظم، ثم تلته ثلاثة أشهر من الحل تكون محشورة بين الأشهر الحرم، وذلك أدعى لأن يعمها السلم، ثم جاءت الأشهر الثلاثة (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم) متوالية لتعطي فترة طويلة لاستدامة الأمن وانعدام الحروب والصراعات من جانب، ومن جانب آخر لتوفير الأمن التام للناس في موسم الحج الذي غالبا ما كان يمتد التجهيز له والفراغ منه طوال تلك الأشهر.

ومعلوم أن الحج جاءت فرضيته على كل الأنبياء السابقين كبقية أركان الإسلام الخمسة، بعد أن أعاد الخليل إبراهيم عليه السلام النداء له، كما حكى القرآن الكريم في قول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].

 وفي التقاء الناس من كل حدب وصوب لأدائه فرصة عظمى لتحقيق مبدأ التآلف والتعايش السلمي بين الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، ثم تعود أفواج الحجيج بذالكم المبدأ لتنشره كل طائفة في ربوع البلاد التي جاءت منها، ثم يأتي الموسم الجديد فتأتي إليه أفواج جديدة غير الأفواج السابقة، فتظل حالة التآلف والتعايش السلمي تتجدد بتجدد المواسم، فلا تبلى بتوالي السنين وتنسى كما تنسى المبادئ الأخرى.

وهذا الربط بين غاية الأشهر الحرم وتوافد الحجيج نلحظه في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]أي لا تتعدَّوا حدود الله ومعالمه، ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم.

شبهة “نسخ” تحريم القتال في الأشهر الحرم

يقول الطبري: “صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قواما للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، والشهر الحرام والهدي والقلائد، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره، وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم”. (تفسير الطبري: 11/ 89).

وقوله تعالى: “جعل الله” يبين أن هذا كان تشريعا إلهيا وليس ابتداعا عربيا كما زعم البعض بقولهم إن العرب أوجدوا نظام الأشهر الحرم من أجل مصالحهم، ولذلك بقيت تلك الحرمة للأشهر الحرم وستبقى إلى يوم القيامة، ولم ينسخ حكم منع القتال فيها كما ذهب أكثرية العلماء قديما؛ فإن الإسلام جاء ليقوم ما اعوج ويعيد بناء ما انهدم من النظام الذي شرعه الله عز وجل لعباده على مر القرون والأزمان.

يقول ابن جريج: “حلف عطاء بن أبي رباح بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في المحرم، ولا في الأشهر الحرم؛ إلا أن يُقاتلوا فيها، وما نسخت” (أبو بكر الطرطوشى: الحوادث والبدع ص 138).

ويقول القاسمي في تفسيره: “لم يحفظ عن النبي أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية، ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه” (تفسير القاسمي: 4/ 9).

متى يباح القتال في الأشهر الحرم؟

ربما استغل أعداء المسلمين هذه الفرصة وسعوا لمهاجمتهم والاعتداء عليهم خلال تلك الأشهر وهم آمنون من رد المسلمين عدوانهم، فكان أن أبيح القتال فيها في تلك الحالة فقط، فقال عز وجل: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].

ولما توجس المسلمون من حرمة القتال فيه والمدافعة وسألوا النبي عن ذلك نزل قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217] أي القتال فيه جرمه عظيم كبير ولكن ما يفعله المشركون بكم من اعتداء جرمه أكبر من ذلك؛ ولذا يجب مدافعتهم إن قاتلوكم فيه.

هل غزا النبي في الأشهر الحرم؟

يقول أبو عبد الله الحَلِيمي الجرجاني في كتابه (المنهاج في شعب الإيمان 2/ 464): “وتحريم القتال في الأشهر الحرم إنما هو تحريم ابتداء به، فأما قتال من يُقاتل فلم يكن حرامًا.. وروى عطاء بن جابر رضي الله عنه إن رسول الله لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلا أن يُغزوا، ومن أنكر ما قلنا محتجًا بأن النبي غزا الطائف في ذي القعدة، فليست حجته بالبينة، لأنه لما غزا هوازن غزاها لست بقين من رمضان”.

كما أن خروجه كان سببه تجييش أهل هوازن وثقيف الجيوش له لما علموا بفتح مكة، فهو إذن كان في حالة دفاع، والقرآن الكريم أباح القتال فيها، والشهور الحرم لم تهل بعد، ولو تمهل بهم رسول الله حتى تحل الأشهر الحرم وتنتهي لغزوه هم قبل أن يغزوهم، ولكان أول ما يتعرض للغزو منهم هي مكة بلد الله الحرام، إذ كانت ثائرتهم غضبا لفتحها، ولو غزوا مكة المكرمة لتحقق ما أبيح من أجله القتال في الأشهر الحرم على عظم وكبر أمره .

وبذلك نرى أن خروج النبي صلى إلى ثقيف والطائف لم يكن نسخا لآية تحريم القتال في الأشهر الحرم، وإنما كان لحادث طارئ لا يتكرر مشفوعة بعبارة رسول الله عن حرمة القتال في مكة المكرمة، وأنها أحلت له ساعة من نهار ولا تحل لأحد من بعده ثم عادت الحرمة لها وللأشهر الحرم إلى يوم القيامة، كما أكد على ذلك في خطبته الشهيرة يوم عرفة، والتي أرسى فيها ولخص مبادئ تعامل البشرية في أمر الدماء والأموال والأعراض، يقول المظهري في تفسيره :” خطبته في حجة الوداع وفيها المنع من القتال في الأشهر الحرم متأخر عنه ( أي عن الآيات التي حسبها بعض العلماء ناسخة لحكم القتال في الأشهر الحرم) ولعل الله سبحانه أحل لرسوله ذلك القتال في الأشهر الحرم كما أباح له القتال في حرم مكة ساعة من النهار عام الفتح” (التفسير المظهري: 7/ 315).

التحريم الباقي إلى يوم القيامة

مما يؤكد أن حرمة تلك الأشهر أبدية وصف الله عز وجل النسيء الذي هو احتيال على القتال فيها بالزيادة في الكفر فقال سبحانه وتعالى: {﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 37].

يقول الماتريدي: “فعاب اللَّه عليهم تحليل ما حرم من الشهر، وجعله زيادة في الكفر، وقال: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أي: عدة الأشهر الأربعة التي حرمها اللَّه (تفسير الماتريدي: 5/ 366)

وتأكيد النبي على ذلك في خطبة الوداع بقوله: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة منها حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان” (سنن أبي داود: 3/ 319).

يقول الشنقيطي: “وكنا نرى هذا القول (نسخ حرمة القتال فيها) أصوب مكثنا كثيرا من الزمن ونحن ننصر هذا القول ونقر أنه الأصوب، ثم ظهر بعد ذلك أن أصوب القولين وأولاهما بالصواب أن تحريم الأشهر الحرم باق لم ينسخ، ومن أصرح الأدلة في ذلك: أنه دلت عليه الأحاديث الصحاح في حجة الوداع في آخر حياة النبي .. حيث قال قبل موته بنحو ثمانين يوماً: «إن اللهَ حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا »  فهذا نص دال على أن تحريم الأشهر الحرم باق لم ينسخ، وهذا هو الأظهر”. (العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير: 5/ 263).

تضاعف العقوبات والديات في الأشهر الحرم

الأمر لا يتوقف عند الاقتتال والاعتداء في الحرمة، وإنما يمتد ليشمل كل المعاصي، إذ ينبغي أن يصوم المسلمون عن المعاصي فيها احتراما لقدسية ومكانة تلك الأشهر، وذلك لأن العقاب من الله عز وجل يتضاعف بالعمل السوء فيها كما تضاعف الثواب بالعمل الصالح فيها، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام ليس كمن أطاعه في شهر حلال (أحكام القرآن لابن العربي:2/ 499)..

ولم يكتف الإسلام بالحديث عن حرمة تلك الأشهر والتحذير من الاعتداء فيها، وبيان عقوبة ذلك في الآخرة، وإنما شرع عقوبات صارمة لمن يعتدي فيها من باب أن من لم يرتدع بالقرآن يرتدع بالسلطان، وقد غلظ الصحابة والتابعون من عقوبات الحدود إذا ارتكبت الجرائم الموجبة لها فيه:

  1. فقد روى ابن أبي شيبة في “مصنفه” بإسناد جيد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: يزاد في دية القتيل في الأشهر الحرم أربعة آلاف، والمقتول في مكة يزاد في ديته أربعة آلاف.
  2. وفي حديث ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بدية وثلث دية.
  3. وعن ابن المسيب وسليمان بن يسار ومجاهد وابن جبير وعطاء: إذا قتل في البلد الحرام فدية وثلث دية، وفي الشهر الحرام وهو محرم فدية مغلظة (ابن الملقن: التوضيح لشرح الجامع الصحيح 31/ 349).
  4. وكان الزهري يقول:” ما أصيب من مواشي الناس وأموالهم في الشهر الحرام فإنه يزاد الثلث هذا في العمد ” (مصنف عبد الرزاق الصنعاني: 9/ 302).

خاتمة: دعوة لإحياء تعظيم شعائر الله

وللأسف هذه المعاني وتلك القدسية والحرمة لتلك الأشهر قد غابت وتورات عن عالمنا، واختفت عن فكر وسلوك الكثيرين منا، وصارت تلك الأشهر تهل وتنتهي والنزاعات والحروب والاعتداءات والمظالم قائمة بيننا، لا نستشعر لها هيبة كما شعر العرب السابقون حتى في عتو جاهليتهم، فأقصى ما فعله العتاة منهم أن ابتدعوا نظام النسيئة ليحتالوا على حرمتها دون أن يجرؤوا على إلغاء أو تناسي حرمتها.

ولذلك فإني أنادي ونحن في شهر رجب شهر الله المعظم أول تلك الشهور أن علينا أن نجد ونجتهد في إعادة تلك المكانة لهذه الأشهر، فلا يظلم بعضنا بعضا لأنه كما قال قتادة: الظلم فيها أعظم وزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما (أبو الحسن الواحدي: التفسير البسيط 10/ 412).

ولا يعتدي فيها بعضنا على بعض، ولا نقترب فيها من المنكرات ولا نرتكب فيها الموبقات، يقول أبو السعود في تفسير {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي بهتك حرمتِهن وارتكابِ ما حرّم فيهن (تفسير أبي السعود :4/ 63).

وأن نسعى للحد من الصراعات القائمة في تلك الشهور، على الأقل فيما بيننا أي داخل العالمين العربي والإسلامي، فأهلة تلك الشهور تتوالى كل عام وصراعات المسلمين والعرب الداخلية مازالت قائمة بل يزداد كل يوم وقود نارها.  

وأما العلماء والكتاب والخطباء والوعاظ فعليهم العمل على إشاعة ونشر ثقافة تعظيمها بين العامة والخاصة من المسلمين، فلا يتركوا مناسبة تهل في تلك الأشهر إلا ويتحدثوا فيها عن حرمتها وقدسيتها، ولا يقع حادث اعتداء أو معصية فيها إلا ويذكروا الناس بحرمتها؛ حتى يكون ذلك معروفا مألوفا معتادا لدى الناس جمعيا، ويكون جزءا أصيلا من ثقافتنا.   

ثم بعد ذلك نعمل على نقل ذلك للأمم الأخرى، ووقتها سنجد الكثير والكثير من منظمات حقوق الإنسان العالمية من يتبنى ذلك معنا، ويعمل على ترويجه وتحقيقه على أرض الواقع .