ربما قرأت كتباً في التاريخ متنوعة، وعايشت أحداثاً تاريخية، سواء من تاريخنا العريق أو غيرنا، ووددت لو كنت حاضراً في أحد تلك المشاهد التاريخية. وربما تساءلت أحياناً عن بعض تلكم الحوادث والتفصيلات، وحاولت تخيلها حتى شعرت بأن كتبة التاريخ مبالغون، أو شيء من هذا القبيل.. فهكذا حال من يقرأ حقائق التاريخ بفهم وعمق. لكن كيف هو حال من يعيش التاريخ أو هو أحد صانعيه أو من يساهمون في صناعته؟ أحسبُ أننا نعيش الآن تاريخاً سيقرأه كثيرون بعد قرون عدة. تاريخٌ لن يكون بمقدور أحد تزييفه أو التدليس فيه، باعتبار تنوع وتعدد تقنيات كتابته ومناهجه، والتنوع الهائل الكبير للمصادر على عكس ما كان قديماً.

مقدمة تمهيدية لأحداث نعيشها، في مشهد عربي مسلم يتكرر بين الحين والآخر. ليس هو بالجديد حتى نفاجأ به، بل مشهد عاشه مسلمون مرات ومرات عبر تاريخنا، بل يمكن القول إن ما يقع اليوم في غزة العزة، شبيه بتلك التي كتب عنها ابن الأثير، وهي حادثة دخول التتار إلى العالم الإسلامي، واشتغال آلات تدمير الحرث والنسل التترية في حواضرها، فقال وهو يهم بكتابة أحداث تلك الفترة: لقد بقيت عدة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسياً. إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

وصف ابن الأثير

يواصل ابن الأثير حديثه قائلاً: “ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب لبيت المقدس، وما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعينُ من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف بيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل. ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتُفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويُهلك من خالفه، وهؤلاء – يقصد التتار – لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب، استدبرته الريح “. (1) انتهى.

ابن الأثير يصف جرائم التتار وهو لم يشهد الفاجعة الكبرى في بغداد عام 656 هجرية. ولا أدري كيف كان سيصف أحداث أربعين يوماً وليلة تترية مجرمة، تم خلالها إهلاك حرث ونسل المسلمين في بغداد، ولم يخرجوا عنها إلا اضطراراً، بعد أن بدأت الأوبئة والأمراض بالتفشي..

أين موقعك من التاريخ ؟

ما يقوم به الصهاينة الجبناء اليوم في غزة لا يختلف عن وحشية التتر قديماً. فما قاله ابن الأثير عن التتر أنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، إنما هو ذاته الذي يقوم به الصهاينة الجبناء، ولكن من خلف طائرات ودبابات. إن ما قام به التتر كتب عنه من شهد تلك الحوادث من المسلمين، لكن ما يقوم به الصهاينة الجبناء اليوم، لن يكتب عنه المسلمون فقط أو يكون الأمر حكراً عليهم فحسب، بل العالم أجمع وبالصوت والصورة والكلمة وبأدق التفاصيل.

من ضمن ما يمكن استحضارها من مشاهد في تلكم الفترة، حين كانت حواضر المسلمين تحترق واحدة بعد الأخرى على يد التتر، انشغال المسلمين عن بعضهم البعض، هذا إن لم يكونوا أساساً في حروب وسجالات بين بعضهم البعض أيضاً. فما يصيب بغداد يصيب بغداد، ودمشق دمشق، وهكذا بقية الحواضر المسلمة. لا أحد استنجد بأخيه المسلم في تلك الفترة وتحقق له مراده، إلا ما رحم ربي وقليل ما كانوا هم، وكأنما المشهد ذاته يتكرر اليوم. فما يصيب غزة، يجب على أهل غزة تحمل العواقب والنتائج، مهما ترتفع وتبح أصواتهم يستنجدون إخوانهم هنا وهناك، فلا مجيب ولا معين، هذا إن لم نقل بأن كثيرين منهم ربما متلطخة أياديهم بدماء مسلمي غزة، وإن بدا ظاهرياً غير ذلك، فيما غير المعلن وليس هو بالسر الخفي، يفيد أنهم ضمن التحالف الصهيوصليبي في القضاء على آخر معاقل المقاومة السنية في العالم الإسلامي.

لابد أن تدرك أيها القارئ الكريم أننا نعيش لحظات صناعة تاريخ سيتكلم عنه ويدرسه كثيرون من بعدنا، وليس هذا هو المهم بقدر أهمية ما نريد أن يقرأه القادمون في المستقبل عنا. فهل نريد أن يقرأ عنا القادمون مستقبلاً بأننا كنا ضمن صفوف المتخاذلين أم المرجفين أم المنافقين أم الصامتين، أم قوائم صهاينة العرب، أم ضمن مواقع الشرف ولو بأضعف الإيمان.

بمعنى آخر، أين الموقع الذي نريد تسطير أسماءنا فيه؟ وهذا الأمر بالطبع تحدده أنت يا من تقرأ الآن هذه الكلمات. أنت من يحدد موقعه. وبالتالي اختر واصنع لنفسك موقعاً وموقفاً يذكرك به القادمون بعد قرون بكل جميل، أو العكس من ذلك. فما من كاتب إلا سيفنى، ويبقي الدهر ما كتبت يداه. فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه.

الأمر ليس مقتصراً على الكتابة بأنواعها، كما قال الشاعر، بل يتسع ويشمل كل مساهمة منك في فضح هذا الإجرام الصهيوني الصليبي، وفضح كل تخاذل وصهينة عربية وغير عربية، سواء بالكلمة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية أو أي عمل يؤدي للهدف، وبحسب المتوفر والمستطاع. عمل سيحفظه لك الدهر بعد أن تفنى، ويذكرك الناس به بكل خير. والأهم من كل ذلك، أنك ستقابل ربك يوم الحساب، وعند الإجابة على سؤال لابد أنك ملاقيه: ماذا قدمت لإخوانك في غزة يوم أن تحالف الغرب والشرق عليهم في أكتوبر 2023؟

الإجابة أنت من سيكتبها ويصنعها.

ابدأ من الآن وقبل فوات الأوان.