لما كانت طبيعة الإنسان قابلة للوقوع في الخطأ والزلل والإثم – إلا المعصوم منهم – فإن الله تعالى قد جعل طريقة الاستغفار لمحو الخلل، والتوبة للرجوع من جديد إلى طريقة السوي، ووعد بفتح باب التوبة وأنه لا يغلق إلى أن تطلع الشمس من مغربها، رحمة بالعباد، ودعوة لعدم الاستسلام لليأس والقنوط من المغفرة مهما عظمت أو كثرت الذنوب، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، ومن هنا جاء الحديث: كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم.[1] وما أحسن عيش وحال من يبادر إلى التوبة عند كل معصية يحدثها حتى يكفر الله عنها سيئته ويقبل توبته فيصبح كمن لا ذنب له، وتتبيض الصحيفة بعد أن اسودت، وما أجمل معصية أورثت استقامة ولذة الطاعة في نفوس التوابين الأوابين الصادقين.

عظيم محبة الله تعالى للتوابين

من أسماء الله تعالى الحسنى: التواب، الغفار، الغفور، الغافر، العفو… وكلها من المعاني المعبرة عن محض تفضل الله تعالى على عباده بالتجاوز عن عثراتهم وهناتهم وغفران ذنوبهم وآثامهم وقبول توبتهم وأوبتهم، ومن ذلكم وصف الله تعالى نفسه بأنه {وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وأنه {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] 

قال ابن كثير: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه[2].

وقال جل شأنه لنبيه الكريم منبها على أهمية الإنابة إليه تعالى وكرامة لطفه بعباده: {نَبِئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]

ويقول سبحانه: {إن الله يحب التوابين} [البقرة: 222]، وهذه لخصلة عظيمة جدا ومنقبة جليلة للتوابين أن يحبهم الله تعالى، بل طمأن الله تعالى وهدأ قلب من أسأ وأذنب حتى أفرط وأسرف على نفسه بتفضل قبول توبته مهما كانت ولو مثل زبد البحر {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53] وكذا قال سبحانه في آية سورة البروج بأنه {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14]

قال ابن القيم: وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور، فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحب، والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه؛ ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإنه: {يحب التوابين}، وإذا تاب إليه عبده: أحبه ولو كان منه ما كان[3].

ومن عظيم محبته تعالى لعباده التوابين أنه سبحانه كان أشد فرحا بتوبتهم من فرح رجل وجد متاعه وماله بعد أن سلم نفسه للموت في أرض فلاة من شدة اليأس والقنوط، يقول عليه الصلاة والسلام: “لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده”[4]

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.[5]

ومن ذلكم قصة رجل أسرف في اقتراف ذنب القتل حتى أكمل المائة بقتل راهب الذى قطع رجاء قبول توبته، ولكن الله بسعة رحمته ومغفرته فتح عليه باب التوبة لما رجع إليه سبحانه بقلب منيب، حيث كانت نفسه لا تبرح تراوده بين فينة وفينة في التوبة النصوح حتى “سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم -أي حكمًا- فقال: قيسوا ما بين الأرضيْن، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة[6].

وهذا يؤكد مصداق وعد الله تعالى {يا ابن آدم .. لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي}[7].

وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، فلم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: «فهل أسلمت؟» قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، قال: «نعم، تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن» قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: «نعم» قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى.[8]

وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: “أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباًّ يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك”[9].

وقيل للحسن: ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود.

فقال: «ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملّوا من الاستغفار». وروي عنه أنَّه قال: «ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين»[10].

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عجبت لمن يهلك والنجاة معه، قيل: وما هي؟ قال: الاستغفار[11].

ونصوص الوحيين الدالة على محبة اللة تعالى لعباده التوابين وعلى سعة رحمته بهم كثيرة، وهي نصوص تميت وتذهب اليأس والقنوط من قلوب العصاة والخطائين، بل تهيّج في نفوسهم الأمل ورجاء قبول التوبة، وإنها لفرصة كبيرة لمن لم يقلع عن الذنوب بعد؛ أن يستيقظ ويستدرك ويقبل على التوبة النصوح ليمحو عنه ما مضى في حياته من الذنوب والآثام والخطايا.

ما هي أنواع التوبة؟

الأصل أن كل مؤمن لابد له من التوبة، ولا يكمل أحد إلا بها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.[12] ومن باب الأولى من هو دون مرتبة المؤمن.
قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}[النور: 31] وهذا الأمر المجرد يفيد وجوب التوبة في حق جميع المؤمنين من حيث العموم، ولكن التوبة أنواع، منها:

1 – التوبة من ترك المأمورات: مثل ترك الإيمان، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وصلة الحرام، ونحو ذلك من الفرائض والواجبات المطلوب أداءها حتما وفرضا، فتوبة من ترك جنسها آكد من سائر الذنوب والخطايا.

قال سهل بن عبد الله:” ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي، لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه”.[13]

2 – التوبة من فعل المحظورات والمنهيات، مثل شرب الخمر، والزنا، والقتل، والربا، والغش، والنميمة، والغيبة وغير ذلك من المحرمات قربانها واقترافها، ويتعين على من خاض فيها الاقلاع والرجوع إلى الله تعالى بالتوبة النصوح.

والتوبة من هذين النوعين – ترك مأمور أو فعل منهي – “واجبة على جميع المكلفين كما أمرهم الله بذلك في كتابه وعلى ألسنة رسله”[14] لأنهما سيئة ومعصية الله تعالى، ومن مات عليها دون التوبة الصادقة فإنه على خطر عظيم.

3 – التوبة من التقصير في الطاعات: وهذا الذي يشير إليه الحسن البصري رحمه الله بقوله:” إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة .[15] أي مما قد يعتري الطاعة من الرياء والسمعة والعجب أو عدم بلوغ تمام الغاية في الأداء، وقل من ينجو من هذا النوع، ولذا يندب الاستغفار والتوبة في هذه الحال.

يقول أبو العباس ابن تيمية:” فالمقربون يتوبون من الاقتصار على الواجبات، لا يتوبون من نفس الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار، بل يتوبون من الاقتصار عليها، وفرق بين التّوبة من فعل الحسن، وبين التّوبة من ترك الأحسن، والاقتصار على الحسن.[16] ويقول أيضا:” فمن اقتصر على التوبة الأولى – أي من السيئات بنوعيه – كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين[17]

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31] وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي، إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم.[18]

والحاصل أن التوبة بأقسامها تمثل وظيفة ساعات عمر الإنسان وقوام استقامته وانتظام سيره إلى الله تعالى، مما يوجب العناية بشأنها والانتباه لخطورتها وعدم اهمالها ألبتة.

الحذر من التسويف في التوبة

يجب نبذ فكرة المماطلة والإرجاء وتأمير التسويف على النفس في الإنابة إلى الله تعالى، وإن تأجيل التوبة من الآفات التي هلك فيها كثير من الناس، ومن مكايد الشيطان يكيد بها الإنسان لكى يوصله موئل التلف والشقاوة.

وقال قتادة بن أبي الجلد: قرأت في بعض الكتب: “إنَّ سوف جُندٌ من جُندِ إبليس[19]

وقد نادى الله تعالى عباده إلى بتر حبل التسويف والمبادرة للتوبة والمغفرة فقال عز وجل -: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

 وقال سبحانه -: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد: 21].

وقال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 54 – 58].

والاستغفار إعلان عن نتيجة التوبة، ومن لم يلازم الاستغفار ويواظب عليه لازمه داء التسويف، ومن لازمه هذا الداء أهلكه ويورثه سوء العاقبة، وكم من أصحاب القبور لقي الله تعالى على متن سفينة التسويف وتأخير التوبة فصار مفلسا نادما، وقائلا: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، ولكن كما قال تعالى: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [سبأ: 54].

وفسره طائفة من السلف؛ منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله: بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها.[20]

إذن، وإنه لكلمة خبيثة أن تقول: سَوْفَ أقلع عن معصية.. سَوْفَ أتوب عند الكبر أو عن قريب أتوب، ويؤجل فترة وفترة…. ومن حاله هذه يعسر أن ينجو من سلطان المعصية التى رانت على القلب.

يقول ابن رجب:” اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي.. وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة، أفاق من سكرته لشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.[21]

قال ابن الجوزي:” كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حب الاسلام فلا يزال إبليس يثبطه ويقول له لا تعجل وتمهل في النظر فيسوّفه حتى يموت على كفره، وكذلك يسوّف العاصي بالتوبه فبجعل له غرضه من الشهوان ويمنيّه الإنابة.[22]

وقال أبو محمد العجلي: دخلت على رجل في النزع فقال لي:” سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي”[23]

ولذا أوصى ثمامة بن بجاد قومه لما قيل له في مرضه أوصنا فقال:” أنذركم سوف” [24]

فإنما تجب التوبة على الفور دون أدنى التمهل، {ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17] أي تجب سرعة الإقلاع من الذنب، والعزم على عدم العود، وتأثر القلب بالندم على الفعل، ورد الحق المادي لصاحبه إن كانت المعصية لها تعلق بحق الغير، ومن استوفى هذه الأمور وأخلص لله تعالى فيها النية فقد برأ من رق سلطة التسويف، ويكون الله تعالى أفرح بتوبته من الواجد لمتاعه بعد القنوط.

وعن الربيع بن خيثم، أنه قال لأصحابه: ما الداء؟ وما الدواء؟ وما الشفاء؟ قال: “الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود”[25]

ووجب لهذا التائب الصادق على الناس أربعة أشياء كما قال بعض أهل العلم:” أولها: أن يحبوه، فإن الله تعالى قد أحبه. الثاني: أن يحفظوه بالدعاء على أن يثبته الله على التوبة. الثالث: أن لا يعيروه بما سلف من ذنوبه. الرابع: أن يجالسوه ويذاكروه ويعينوه”[26] على الاستقامة.

من هو خير التوابين والمستغفرين؟

إن خير التوابين والمستغفرين هم أنبياء الله تعالى صفوة الخلق ومن تبعهم بالإحسان، وهم قوم لا يستنكفون عن التوبة والاستغفار مع عصمتهم عن الذنوب إلا اللمم، بل كانوا يسارعون إلى التوبة ويلازمون الاستغفار أيما ملازمة خشية التقصير، لأنه سبيل الفلاح والسعادة ومن أعظم القربات وأحسن المقامات المحمودة، فأخبارهم في هذا السباق مشهورة ومسطورة في الكتاب.

يقول أبو العباس ابن تيمية:” وليست التوبة نقصاً بل هي من أفضل الكمالات والله قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم”[27]

وانظر مجالس النبي المغفور له صلى الله عليه وسلم سواء المجالس العامة أو الخاصة فإنها كانت عامرة بالاستغفار والتوبة على الدوام، حيث كان يعلن ذلك للأمة ويقول: “يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.[28]

ويحكي الصحابة رضوان الله عليهم تطبيق ذلك عمليا في حياته عليه الصلاة والسلام قائلين:” إنَّا كنا لنعدُّ لرسول الله في المجلس: “ربِّ اغفر لي وتب عليَّ؛ إنك أنت التوَّاب الرحيم” مائة مرة[29]”. وإذا انصرف من الصلاة استغفر الله ثلاثا.[30] حتى إذا خرج من الخلاء قال:” غفرانك”[31]

ولذا يقول أبو هريرة رضى الله عنه:” ما رأيت أكثر استغفارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارًا من أبي هريرة رضى الله عنه، وكان مكحول كثير الاستغفار.[32]

عن نافع قال:” كان ابن عمر يكثر الصلاة من الليل وكنت أقوم على الباب فأفهم عامة قراءته فربما ناداني: يا نافع هل كان السحر بعد؟ فإن قلت: نعم. نزع عن القراءة فأخذ في الاستغفار”[33]

وقال عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فدفع إلي تفاحات فأولتهن الولد، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟
فقال: الاستغفار أي بني.[34]

وهو الذي كتب إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار والصدقة، وقال في كتابه:” قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [لأعراف: 23] وقولوا كما قال نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الانبياء: 87][35].

وهذه هي نبذة من حكاية حال القوم مع إدامة الاستغفار، وليسوا عصاة ولا طغاة ولا ظلمة بل هم أخلص البشر لله تعالى دينا وطاعة وخلقا وسلوكا وفي جميع أنواع أبواب الأعمال الصالحة، وهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والصالحون العارفون بالله تعالى حق المعرفة، ولم يهتموا بالاستغفار بهذا الاهتمام الشديد إلا عن العلم بمنزلة التوبة وثمرتها وأثرها في حياة الإنسان، فطوبى لمن أبصر حقيقة التوبة ولم يعجبه عمله ولم يغتر بمكانته ولازم التوبة والاستغفار قلبا وقالبا حتى كان من خير التوابين الأوابين.


[1] رواه مسلم (968)

[2]  تفسير ابن كثير 7/127

[3] التبيان في أقسام القرآن. ص: 548.

[4] رواه مسلم (2744)

[5]  المصدر السابق (31)

[6]  المصدر السابق (2766)

[7]  رواه الترمذي (3540) وصححه الألباني

[8]  رواه الطبراني في المعجم الكبير (7235) وصححه الألباني

[9] رواه مسلم (2758)

[10] دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ. ص:199

[11] المجالسة وجواهر العلم (1207)

[12] «مجموع الفتاوى» 15/55

[13] الفوائد لابن القيم. ص:119

[14]  جامع الرسائل 1/227

[15] الزهد لابن المبارك (985)

[16] جامع الرسائل 1/251

[17] المصدر السابق 1/227

[18] مدارج السالكين 1/196

[19] اقتضاء العلم العمل. ص:114

[20] روائع التفسير 1/304

[21] لطائف المعارف. ص: 153

[22] تلبيس إبليس. ص:356

[23] التبصرة لابن الجوزي. ص:217

[24] الزهد لوكيع (263)

[25] الزهد لأحمد بن حنبل (1983)

[26]  تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين. ص:57

[27] مجموع الفتاوى 15/51.

[28] رواه البخاري في الأدب المفرد (621) وصححه الألباني

[29]  رواه أبو داود (1516) وصححه الألباني

[30] رواه مسلم (135)

[31] رواه الترمذي (7) وصححه الألباني

[32] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب 8/321

[33] التهجد لابن أبى الدنيا ص:310

[34]  الروح. ص:22

[35]  لطائف المعارف ص:214