أولا مفتتح تمهيدي:

 من الجدير بالملاحظة أولا، تنوُّع المقاربات في دراسة الدين وتداخلها خاصة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية – الاجتماعية، وامتد هذا الاهتمام، إلى  المناهج البيولوجية، التي تناولت الدّين من حيث أدواره وتأثيره على الترَّكيبة البيولوجية للإنسان، وكأن الدّين بات هو الموضوع الراَّبط بين العلوم من حيث أنه الموضوع الذي يمكن لمناهج العلوم العديدة من أن تفتح معه نقاشا في شؤونه ومطالبه وما الذي يريده من الإنسان، وهل ثمة قنوات في الإنسان تعي الدّين كما تعي الحواس عالم الموجودات الحسية، ويعي العقل عالم المجرّدات الفكرية. أم أنه النزوع نحو عوالم الغيب له دوافع  نفسية وظروف اجتماعية وتركيبات بيولوجية. إنَّ كثرة التَّحليلات والتأمًّلات حول الدين، بمعزل عن قدرتها في فهمه وتناوله : بالنّقد والتَّحليل أو بالتبنيّ و التَّشغيل، لهي علامة لافتة على أنَّ الدين وميل الإنسان إلى التديّن وشعوره بالحاجة إلى قوة عليا، شيء غريب ويستنفر القوى العقلية و النفسية لأجل إيجاد معنى له، أو رسم لسبل  للتواصل معه؛ و الآكد أن المُساكنة الإنسانية في الدين ليست شيئا يتخيّره الإنسان بالمعاندة أو بالموافقة، بل هو القوة السَّارية والعماد الكلي لنظام الموجودات ولمعنى جريانها.

وإذ انطلقنا من هذه الفاتحة التي تُقر بانغراس الدّين في نظام الموجودات، فإننا نتقل  خصوصية المقاربة الفلسفية للدّين وللظاهر الدينية، بخاصة وأننا أقررنا بأنَّه من الموضوعات المتعددة التَّواجد في العلوم، ولما كانت الفلسفة لها خصوصيتها التَّحليلية والمنهجية للدين، فما هي ميزات التناول الفلسفي للدين؟ وفيم يختلف عن رؤى العلوم الأخرى على الأقل في دوائر المعرفة الإنسانية و الاجتماعية ؟ .

وقبل أن نمضي إلى الإجابة عن هذه الاستفهامات، فإنَّ وَجاهَة المسألة الدينية كما أشرنا، توجب علينا إيضاح المنزلة الجليلة للدّين في التّواريخ الثقافية للإنسانية، وكذا مَوَاطِن التَّلاقي والمفارقة بين تعاليم الدّين أو أركانه و بين تأمّلات الفيلسوف ومقولاته . وسنبدأ بذكر ملازمة الدّين للثقافة؛ ثم نُتْبِعُهَا بذكر أثر التَّعاليم الدّينية أو المعالم الإلهية في الآراء الفلسفية .

ثانيا المُلازمة بين الدّين والوجود الثقافي للإنسان:

لقد ارتبط وجود الإنسان في العالم بوجود نزوعه إلى الاعتقاد في كائنات غيبية وفي إيمانه بأنّه بخلاف باقي الموجودات، فإنَّ بداخله عنصرا غير مادي، يتجلَّى في شوقه إلى الخُلود وفي تعبيره عن هذا الشُّعور الباطني من خلال الفنون (الرسم ، النَّحت، العبادات الفردية و الجماعية….) . كما أنّه أرسى علاقاته   الاجتماعية بناء على هذا الميثاق الدّيني الذين يعطي معنى للحياة، تتعدَّى المعنى الحيواني والتعاوني إلى المعنى التّآلفي أو المؤاخاة وإلى الوعي بقيمة الحرية أيضا، وبرأي علماء الأناسة الفلسفية أن الإنسان بالمقارنة مع الحيوان ضعيف الثقة بغرائزه، ” فعند الحيوان تحرك الغرائز الجبلية دوافع الحياة فيه  وعلاقته بالمحيط، لكن الإنسان بسبب ضعف غرائزه يتزايد نقص الثقة لديه. إلا أنَّ هذا النّقص هو في آن قوة. إنّه يمكن الإنسان من العمل المتحرر من الغرائز، أي من العمل الحر  أو بتلقاء النّفس spontanes Handeln .  

وبحسب نظرة شلر التي يتقاسمها مع فرويد وجيلن، فإنَّ ما ينقص الإنسان من دفع التحريك الغريزي هو الذي مثّل العلّة الأصلية Ursache لما عنده من فائض في النوازع يميّزه عن غيره من الحيوانات triebuberschuss. ولكي يستطيع الإنسان العيش في إطار علاقات الجماعة وبحسب البنى الاجتماعية فلابد له من أن يعدّل بالكبت والتصعيد ما تتميّز بع نوازعه من فائض الفطرة[1].

والمركز الأقوى الذي استطاع أن يتحكَّم في الغرائز ويُعدل  في الطبائع ويجعل من الحياة الاجتماعية ممكنة هو الدّين؛ لأنّه كان ينقل الحياة الإنسانية من صورتها الطبيعية الغريزية إلى صورتها الاجتماعية، وفي هذا السياق يقول الفريد وايتهد ” المقدّس المشترك أعطى الإحساس بالانتماء الكامل للجماعة القبلية، فمن خلال الديانات تنامى الإحساس بمعان للحياة لا تقتصر على مجرّد العمل على البقاء، وقد جلبت الأديان أشكالا دينية محدّدة ، ومهما بلغت من هشاشتها، فإنّها أعطت مُسَوّغات لتلك الأحاسيس وحشدتها “[2].إذن، فالدين هوَّ الذي أوجد هذا التَّآلُف بين الإنسان والإنسان، وشرَّع لقواعد المعاملة وعيّن أسلوب الحياة في المجتمع؛ ولأنّ هذا هكذا، فقد جاء  في معنى كلمة الدين  Religare في اللاتينية ومن بعد الفرنسية أنّها ” شدّة الجمع والتّوحيد، أو ما به يتقوّى الاجتماع و الوحدة، أو ما يُتمسّك به تقيُّدا وتبعية “[3]

إن الفعل الإنساني إذا لم يكن جماعيا فإن حركته محدودة؛ والفرد الباحث عن مطالبه لوحده لا يقدر على تلبيتها، وإنما لابد له من أن يجتمع مع غيره، وأن يشترك معهم، والدّين كما تمت الإشارة؛ هو في طليعة المعاني التي تَخلق هذه الرَّوابط النَّفسية والاجتماعية، وتدفع بالفعل إلى أقصى حركته في مجال الحاجات المادية وكذا الحاجات النَّفسية و الاجتماعية و السياسية والأدوار التاريخية الكبرى؛ ولأن الدّين يخلق القيم الاجتماعية؛ فإنَّنا نرى أن هناك تماثلا بين الأشخاص في المجتمعات فيما نسميه بالثقافة، فَوِحدة أسلوب الحياة لدى أمة من الأمم أو شعب من الشعوب آت من وحدة رؤيتها إلى العالم و الإنسان والقيم، ومظاهر هذه الوحدة في الثقافة نلاحظها في : “نموذج الحياة وجميع الأعمال المادية والعقلية التي تدخل في هذا الصّنف من النّموذج، وأما بالنسبة إلى الثّمرات السلوكية فهي كثيرة منها : بيوت، أدوات، أعمال فنية … وأما الحقائق غير المرئية فهي: العادات الذّهنية الفاعلة، وجميع السِّمات المطبوعة في الفرد من البيئة الاجتماعية “[4].

وبهذا، يبدو لنا جليا، أنَّ التماثل الموجود بين الناس في التاريخ وفي الواقع، آت من انتمائهم المشترك إلى عامل ثقافي، وعِماد هذا العامل قد يكون معتقدا دينيا منزّلا كما هو الأمر في الأديان الكبرى : اليهودية والمسيحية و الإسلام، وإما ثقافة ذات تفسيرات دينية للكون و للإنسان، مثل الثقافة الكنفوشيوسية في الصّين والثقافة الزرادشتية في بلاد فارس. إن هذا المعنى يدلُّ على تلازمية طبيعة الوعي الدّيني وشكل الثقافة المشتركة. وأمام هذا، فإنَّ الفلسفة تطرح أسئلة حول ماهية هذا الديني الذي يُلبس المعنى على الوجود، ، ولماذا يخلق الدّين نظام الثقافة خاصة في شبكة علاقاتها الاجتماعية؟ ما هي الأسئلة التي تطرحها الفلسفة على هذا الترابط بين الديني و الثقافي؟ وهل الفلسفة نفسها وريثة للدّين أو الثقافة ؟

لا يتناول مبحث فلسفة الدين كجزء من أجزاء المعرفة، الدّين مُكْتفيا بمحاولة الفهم لماهيته وعِلله وغاياته ، وإنّما ثمة أثر كبير للدّين نفسه على عقول الفلاسفة وثمرات فكرهم نفسه؛  أو أنّ من تَسَمُّوا بقُدماء الحكماء في التُّراث الإنساني كانوا يقتبسون حكمتهم من تعاليم الدّين الإلهية، وإظهارا لهذه الفكرة يقول أبو الحسن العامري عن حكماء اليونان في الفصل الثالث من كتاب: الأمد على الأبد”،[قُدَماء الحُكماء وجَلاَلة الحكمة] “أوّل من وُصف بالحكمة من البشريين على الإطلاق كان لقمان الحكيم. والله سبحانه وتعالى يقول (وَلَقَدْ آتيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ) [لقمان 12] وكان في زمن داود النَّبي عليه السلام، وكان مقامهما جميعا ببلاد الشام. وكان أنباذوقليس اليوناني يختلف إليه، على ما حُكي، ويأخذ من حكمته…واليونانيون كانوا يصفونه بالحكمة لمصاحبته التي كانت للقمان الحكيم.بل هو أوَّل من وُصف بالحكمة…ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة فيثاغورس. وقد اختلف بمصر إلى أصحاب سليمان بن داود عليه السَّلام حين جُلبوا إليها من بلاد الشام، وكان تعلّم الهندسة قبلهم من المصريين. فتعلّم أيضا العلوم الطَّبيعية والعلوم الإلهية من أصحاب سليمان…ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده سقراط، وقد اقتبس الحكمة من فيثاغورس، واقتصر من أصنافها على المعالم الإلهية وأعرض عن ملاذّ الدنيا بالكلية … ثم أحد الموصوفين بالحكمة بعده افلاطن، وكان فيهم شريف النّسب مِفضالا. وقد وافق سقراط في اقتباس الحكمة من فيثاغورس إلا إنّه لم يقتصر على المعالم الإلهية…ثم أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده أرسطا طاليسُ وهو معلّم الاسكندر المعرروف بذي القرنين.

وكان ملازما لأفلاطن قريبا من عشرين سنة لاقتباس الحكمة. وكان يسمى في حداثته «روحانيا»[5] لفرط ذكائه.وكان افلاطن «يسميه عقلا»”[6].

ووجه تصنيف هؤلاء بالحكماء، هو رؤاهم الفلسفية المبنية على إقرار مؤدّاه؛ أن للعالم وُجود محدث وليس قديم، وأن المعاد حَقَّ و ليس باطلا، وأن النَّفس هي جوهر شريف و ليست عرضا، وكُلُّ من يعاند هذه المعالم في التَّفكير، يوصف بالزّراية ويجري الحطُّ من منزلته، وتوكيدا لاكتساب صفة الحكمة من الارتكاز على المعالم الإلهية ” أنّه من الحكايات المشهورة عن أفلاطون أنّه كان يقول لأصحابه : إنّكم إن عرفتم كلَّ شيء فلا تحسبوا أنّكم قد عرفتم شيئا مالم تعرفوا الله عزّو جلَّ، ثم من الحكايات المشهورة عن أرسطا طاليس أنّه كان يقول : كنت قبل اليوم أشرب وأظمأ، حتّى إذا عرفت الله عزّ وجلَّ رويت بلا شرب “[7].

والمعنى قريبا نجده عند سقراط الذي كان قبلهما؛ فهو لم يكن فيلسوفا نظريا؛  منحصرا همه في تجريد المعقولات من المحسوسات،  وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالات الأنبياء في مسعاهم نحو تحرير الإنسان من الاعتقادات الخاطئة والسُّلوكات المنحرفة عن استقامة الفضيلة ” ذلك أن سقراط كان يشير إلى اللاّمنظور الذي كان يعاوده ويأنس إليه، فهو يُشرّع لممارسته الفلسفية باعتبارها إلهية، لأنه دخل يوما “معبد دلفي” فسمع هاتفا يخبره بأنّه أكثر  الأثينيين حكمة. إن رسالة سقراط ذات أساس إلهي، لذلك فهو لا يقبل التخلّي عنها، مثلما يتجلّى ذلك في مؤلف أفلاطون بعنوان ” تمجيد سقراط”، نكتفي هنا بالإشارة في هذا الموضوع، إلى  أن سقراط يخاطب القضاة بقوله : ” لو أنَّكم طلبتم مني أن أتخلّى عن التّفلسف مقابل تبرئة ساحتي وإطلاق سراحي فإني لن أقبل ذلك البتّة، لأنّه ليس أعسر عليّ من عدم طاعة الله الذي حمّلني رسالة هدايتكم وإرشادكم إلى ما به تكون النّفس فاضلة” [8].

وهنا نلاحظ طبيعة المضمون الذي يريد سقراط أن يهدي به المجتمع الأثيني، فهو مضمون ديني حقيقي في شكل فلسفي، مضمون مقدّس في شكل جديد هو الشَّكل الفلسفي البرهاني، أي أنَّ القيم الدّينية قد أحالها سقراط في تعاليمه من هذا الشَّكل إلى شكل جديد، قِوامه العقلانية المجرّدة وتأسيس اليقين على أسس برهانية و ليست أسسا أسطورية، و بالتالي فنحن ” أمام لحظة استجلاب للمقدّس في فضاء جديد هو فضاء القول الفلسفي من حيث هو رغبة جامعة في الحكمة و بحث عن الحقيقية في صورة جديدة… إن الميتافيزيقا التي افتتحها سقراط وواصلها فلاسفة آخرون ستكون أساس خطاب فلسفي أقرّ بإطلاقية الحقيقة إلى حدّ التّقديس”.[9].

وإذْ بانت العلاقة الوثيقة بين  المعالم الإلهية والأفكار الفلسفية، في مُركَّب هو الحكمة، فإنَّه يجَدر بنا الإتيان بشواهد فلسفية تنتمي إلى التَّفكير الفلسفي الحديث، ولن نحرم أنفسنا من متعة الاستشهاد بفقرات من نصوص” فريدريش هيجل “، الذي خصَّص دروسا عديدة عن الدين، حيث قدَّم بعضها سنة 1821  وأخرى في سنة 1827، وآخرها سنة وفاته 1831. وكسُؤال إلى هيجل عن علاقة الدّين بأنظمة العالم يجيبنا ودور الفلسفة بينهما قائلا ” إن مطلوبنا من الفلسفة ليس أن تجعل الدّين موضوع بحث لها، بل المطلوب منها هو بالأحرى أن تجعله أساسا مفروضا في كل شيء. فالدّين ينبغي أن يكون، بمقتضى جوهره، مالا يمكن لأيّ أمر جديد في حياة الإنسان أن يحصل من دونه”[10].

إذن، فالفلسفة هنا باتت في اتجاه تحليلي وإلباسي، أي تُلْبِسْ كلَّ العالم وظواهره اللّباس الدّيني، أو أنّ هيجل ينقل نظام الاعتقاد الدّيني إلى نظام فكري، أو يحوّل المعاني الإيمانية إلى أدوات تحليلة ومقولات فكرية؛  لكنه ليس أيّ لباس ديني، وإنّما الدّيني المسيحي بشكل خاص، لأنها الدّيانة التي نشأ عليها هيجل واعتنق مبادئها وحوَّلها إلى حركة فكرية وأداة منهجية عمادها منهج الجدل الذي ينغرس في فكرة “التّثليث”. ونظرا للأثر الكبير للدّين المسيحي على عقول الفلاسفة خاصة الفلسفة الحديثة، أضحى “من الصّعب ممارسة فلسفة الدّين دون افتراض أنّ الأمر يتعلّق بفلسفة معيّنة في الدين، و التي لن تتلاءم إلا مع شكل من أشكال الدّيني الكثيرة…بعبارة صريحة : أنّ المسيحية قد طبعت بميسمها، بدرجة كبيرة، الفلسفة والتفكير في الدّين، ومازالت تؤثر في أنماط التّفكير في الدّين، سواء تم الاعتراف بذلك أم لم يتم “[11].

يتضح مما سبق، أن الفلسفة ليست تفكيرا على طريقة تفكير العلماء الطَّبيعين في موضوعاتهم، وإنما هي تفكير انطلاقا من أسس دينية مخصوصة، على الأقل كما رأينا في السياق الفلسفي اليوناني و السياق الفلسفي الحديث، ومقتضى هذا الإقرار أن فلسفة الدين تبقى ذاتية ومنسوبة إلى الأنساق الفلسفية  الموضوعة، وتبتعد كثيرا عن الحيادية والانفصال الكلي عن  التَّعاليم الدينية. وأما آلية الفيلسوف التي يستعملها، فهي صرف المعاني الدّينية المباشرة واستبقائها في شكل مفاهيم عقلية، بمنهجية التَّحليل و التركيب والجدل مع حركة الواقع والتَّاريخ، مثال ذلك الكلمات الدّينية : الروح (روح القدس) والتثليث والتَّجسيد، ” وقد تعلّق بهما هيجل كما لم يتعلّق بهما أحد من ” الأنواريين”؛ فلما كان هذان المعتقدان يقرران بأن الإله يخرج عن طبيعته الإلهية إلى الطَّبيعة الإنسانية التي تضادها، متحملا الموت، كي يتحقق بكمال الإلوهية، فقد جعل هيجل حقيقة المفهوم الفلسفي هو كذلك. قائمة في تحوله، في ذاته، إلى ضدّه، كي تتقدّم مفهوميته وتكتمل، كما إذا تحوَّل مفهوم الوُجود إلى ضده، وهو مفهوم الصيرورة وهكذا “[12].

وكأن أثر الفيلسوف في العالم يكون من حالة العلاقة بالدّين، فبقدر ما تقوى علاقته بالدين فلسفيا، بقدر ما يكتسب تواجدا في الفكر؛ وبقدر ما تكون صلته بالدّين انقطاعية بقدر ما يكون أقل حضورا وتأثيرا في الفكر الفلسفي، وحتى من اكتسب القيمة الكبرى وكان معاندا للدّين، اكتسبها من نقده للدّين نفسه وبناء فلسفته انطلاقا من التَّفكير بالمقابل في الدين، ومثال ذلك فريدريك نيتشه، الذي هاجم الدّيانة النَّصرانية واليهودية والدّيانات التي كانت دوافع نشأتها الخوف و الحاجة؛ وبَسَط في المقابل رؤيته التي تستعيد قيمة الأشياء التي حطّت من قيمتها الدّيانة النصرانية؛ مثل قيمة الحياة والأرض و الجسد و الغرائز والفن والقوة . وكأن قدر التفلسف هو هذه العلاقة المتوترة  مع الدين، انغراسا أو نقدا أو تأويلا أو نقدا .

يتبيّن لنا إذن أن قيمة  الدّين من الناحية الفلسفية ليست آتية فقط، من مواقف خاصة تجاه الدّين، وإنّما تتجاوز هذا المستوى إلى مستوى التحام المقدّس بالحياة الشَّخصية للفيلسوف أيضا، لذلك ” فإنّ أحد الفروق بين فلسفة الدين و الأقسام الأخرى من الفلسفة، هو أن الأولى ترتبط ارتباطا وثيقا بالمواقف الشَّخصية للفلاسفة أنفسهم… ومع ذلك فإن أحد أهم الدّوافع التي تقود الفلاسفة في الفلسفة الأخلاقية هي في الأغلب الأعم الرغبة في وضع الأسس المنطقية لمعتقداتهم الأخلاقية الشَّخصية “[13].

 بعد أن تبيّنت لنا، تلك القوة النَّافذة للدّين في الثقافة وفي عقول الفلاسفة، فإننا نمضي إلى القول من منظور فلسفة الدين، أن النزُّوع الإنساني نحو الشوق إلى الرُّوحاني والحنين إلى الخلود وعبادة ذات إلهية جديرة بالطّاعة، تعد علامات على فطرية الدَّافع الديني في الإنسان، وتجذُّره في الجهاز النَّفسي والمعرفي للإنسان، فالوجود الإلهي وتهذيب النَّوازع الطبيعية والتَّأمُّل في ملكوت السّماوات و الأرض، والرَّغبة في إقرار العدل والتخلّص من العبودية وإقرار التشريعات الأخلاقية، هذه تُعَدُّ علامات على استغراز  قوة التَّديُّن في الإنسان، وأنه بخلاف الحيوان يبحث عن أساس آخر لمعنى حياته   يطمئن إليه ويرتكز عليه في فهم العالم وتقعيد السلوك؛  ولا يرتكز على الغريزة الواثقة من نفسها السارية في النوع الإنساني. إن الإنسان إذن، هو حيوان يرفض أن يكون كذلك كما قيل .


 [1] فولف، كريستوف، علم الأناسة. التاريخ والثقافة والفلسفة، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، تونس، أبو ظبي، الدار المتوسطية للنشر، كلمة، 2009، ص 66.

 [2] ألفرد وايتهد، كيف يتكون الدين: العقيدة والإنسان والمجتمع، مجلة التفاهم، العدد 40، السنة الحادية عشرة، ربيع 2013، ص 269.

 [3] النقاري حمو، مفاهيم التفلسف الغربي، معجم تحليلي عربي، إبداع: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، 2018، ص 276.

[4] Jacque Dumont et Philippe Vandooren, Dictionnaire Marabout université, la philosophie, tom 1

Paris: Centre d’ Etude et de Promotion de la lecture, p 90

[5] يقول جون غروندان Jean Grondin: “كان غادامير Gadamer على حق عندما قال إن أرسطو، الذي كان ينتقد دومًا عند أستاذه أفلاطون فصله بين عالم المثل وعالم المحسوسات، ربّما هو المفكّر الحقيقي في مسألة الفصل هذه عندما طرح فكرة التّعالي المطلق للمحرك الأوّل. إنّنا هنا أمام سؤال مهم بالنّسبة إلى فلسفة الدين: هل الإله محايث لعالمنا، أو متعالٍ عنه بصفة مطلقة؟ جواب أرسطو الصَّارم هو أن الإله لا يمكن أن يكون إلَّا متعاليًا”. انظر: كتاب جون غروندان، فلسفة الدين، ترجمة: أحمد المتوكّل، المغرب: مؤمنون بلا حدود، 2017، ص 79.

[6] العامري أبو الحسن، الأمد على الأبد، ضمن كتاب، أربع رسائل فلسفية، تحقيق: سعيد الغانمي، العراق: الكوفة، 2015، ص 167/169.

[7] نفسه، ص 172.

[8] محمد الجوة، الحقيقية المقدّسة، ضمن كتاب: محمد الجوة وآخرون، الإنسان والمقدّس، تونس: الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية، دار محمد علي الحامي، 1994، ص 10.

[9] المرجع نفسه، ص 12.

[10] هيجل، جدلية الدين والتنوير، “من دروس فلسفة الدين لهيجل”، ترجمة: أبو يعرب المرزوقي، أبو ظبي، كلمة، 2014، ص 29.

[11] غروندان، جون، فلسفة الدين، ترجمة وتعليق، مرجع سابق 2017، ص 32.

[12] عبد الرحمن طه، المفاهيم الأخلاقية، بين الائتمانية والعلمانية، ج 1 “المفاهيم الائتمانية“، الرباط، دار الأمان، 2021، ص 319.

 [13] أوليفر ليمان وآخرون، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرون، الكويت: سلسة عالم المعرفة، 2004، ص 204.