ذكر الله عز وجل أقل العبادات جهدا، وأعظمها أجرا، وأعمقها أثرا، فهو اعتصام بالله عز وجل، واستجارة به، ولجوؤ إليه، وذكر الله تبارك وتعالى هو غذاء الآرواح، وطمأنينة القلوب، ودواء النفوس.

قال ابن القيم: به تُدفع الكربات، وتُرفع الدرجات، وتُقال العثرات، وذكر الله عز وجل هو السبيل القويم، والصراط المستقيم، لنيل مرضاة رب العالمين.

وفوائد الذكر لا تعد ولا تحصى، فقد ذكر ابن القيم في الوابل الصيب للذكر أكثر من سبعين فائدة، بعضها اجمل من بعض، لكني هنا أريد أن أسلط الضوء على واحدة من أعظم فوائد الذكر أثرا في حياة المسلم، وهي أن الذكر هو الوسيلة لتحقيق اليقين الصادق في قلب المسلم.

  عن ابن عباس قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، ‌وَاعْلَمْ ‌أَنَّ ‌الأُمَّةَ ‌لَوْ ‌اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ. (رواه احمد والترمذي والحاكم)، فحتى يصل المؤمن لهذه الدرجة العالية من اليقين، عليه بمدوامة ذكر الله رب العاليمن، في آن وحين، قال تبارك تعالى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران: 191)             

قال بعض السلف:  الذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون ، وفيها يتجرون وإليها دائمـًا يترددون، وهو منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل ، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبورًا ، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب ، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.

به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات ، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم ، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم ، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون ، يدع القلب الحزين ضاحكـًا مسرورًا ، ويوصل الذاكر إلى المذكور ، بل يدع الذاكر مذكورًا ، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة (والذكر) عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة ، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال ، قيامـًا وقعودًا وعلى جنوبهم ، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها ، فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها .

وهو جلاء القلوب وصقالتها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها ، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقـًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقـًا ، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء ، وحفظ الله عليه كل شيء ، وكان له عوضـًا من كل شيء ، به يزول الوقر عن الأسماع والبكم عن الألسنة، وتتقشع الظلمة عن الأبصار.

زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين ، فاللسان الغافل كالعين العمياء ، والأذن الصماء واليد الشلاء، وهو باب الله الأعظم بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته ، قال الحسن البصري : ” تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن ، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق .

 وقد جاء الأمر بالذكر في كثير من ايات القران الكريم:

 قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]

وقال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي} (البقرة 152)

وقال تعالى: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} (الأحزاب 41)

وقال تعالى: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} (الأحزاب 35)

وقال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (آل عمران 190)

وقال تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} (الأنفال 44)

وقال تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} (البقرة 200)

 وقال تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}

وقال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} (المنافقون 9)

 وقال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} (الأعراف 205).

وللذكر من عظائم الأجر ما يذهل المسلم ويدفعه دفعا حثيثا إلي عدم الغفلة عن الذكر لحظة واحدة في حياته، بل ويجعله يعض أصابعه ندما وحزنا على دقيقة واحدة ضيعها في غير ذكر الله عزوجل، من ذلك  الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند والترمذي وابن ماجه في السنن وغيرهم عن أبي الدَّرْداء رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -- “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى”. ولما في هذا الحديث من الأجر العظيم على العمل القليل فقد يكون هذا سببا لشك في صحة الحديث، لكن هذا الحديث قد صححه جمع من أهل العلم مثل البغوي والمنذري والعراقي والهيثمي والحاكم والنووي، وغيرهم الكثير من المتقدمين والمتأخرين.

  وقد عقب على هذا الحديث العز ابن عبد السلام في قواعده فذهب إلى أن هذا الحديث وغيره من الأدلة المتكاثرة تدل على أنَّ الثواب لا يُشترط أن يكون على قدر النَّصَب والتعب في جميع العبادات بل قد يأجر الله تعالى على قليل الأعمال أكثر مما يأجر على كثيرها، فإن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف، وأن ذكر الله تعالى من أعظم الأعمال شرفا.

 وقال المناوي في التيسير معقبا على هذا الحديث: (لأن جميع العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وغيرهما وسائل ووسائط يتقرب بها إلى الله والذكر هو المقصود الأعظم والقلب الذي تدور عليه رحا جميع الأديان) ا.هـ.

  ويكفي للدلالة على قيمة الذكر العظيمة، ومنزلته الرفيعة، وأثره الكبير، أن الله سبحانه وتعالي أمر به عند الجهاد، والتقاء الجيوش، وتطاير الرؤوس، قال تبارك وتعالى:  { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ } [الأنفال: 45]

يقول الدكتور وهبة الزحيلي في تفسيره لهذه الآية في التفسير المنير : ” والثاني من عوامل النصر في الآية هو ذكر الله كثيرا: بذكره في القلب واللسان، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر؛ لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه، ويقوي الروح المعنوية، فبذكره تطمئن القلوب، ويؤمّل النصر والفرج، وبدعائه تتبدد الكروب والمخاوف، ويحلو الموت في سبيل الله عز وجل”.

ومما يدل على عظيم أجر ذكر الله تعالى، وعمق أثره في نفس المسلم ووجدانه، قول الحق سبحانه وتعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} ( العنكبوت:45 ) وفي تفسير هذه الاية أقوال كثيرة نقتصر منها على معنيين: الأول: قال ابن كثير: (يعني: أن الصلاة تشتمل على شيئين: على ترك الفواحش والمنكرات، أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك.. وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر؛ ولهذا قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} أي: أعظم من الأول).

الثاني: قال ابن زيد وقتادة: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء. وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال للسائل: أما تقرأ القرآن { ولذكر الله أكبر}.

وأختم بما قاله أحد السلف : ” مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها .

قيل : وما أطيب ما فيها ؟

قال: محبة الله ، والأنس به ، والشوق إلى لقائه ،والتنعم بذكره وطاعته “.