قال الأكاديمي والمترجم د. شكري مجاهد، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس، إن الترجمة ليست مسألة تفاعل حضاري وحسب، بل هي مسألة تواصل حياة بين الحضارات. لافتًا إلى أن الحضارة الإنسانية حضارة واحدة، وينبغي أن يتعرف أهل كل مكان على ما لدى بني جلدتهم من منجزات.

وأشار الدكتور مجاهد إلى اهتمام الخلفاء المسلمين في عصور الازدهار بالحصول على المعرفة، وأن ذلك لم يكن ليتم بغير الترجمة.. مبينًا أن ما جاء عن “دار الحكمة”، وعن اهتمام المأمون وغيره بالترجمة، يشير إلى أن أصحاب المشروعات الحضارية لا ينظرون تحت أقدامهم فحسب، ولا ينظرون إلى من حولهم فحسب، بل يتطلعون إلى ما وراء الحدود.

في هذا الحوار نتعرف على مسيرة د. شكري مجاهد الثرية في عالم الترجمة، ونتطرق إلى دور الترجمة في التفاعل الحضاري، وإلى واقع الترجمة في العالم العربي وما تحتاجه للنهوض بها، وغير ذلك من القضايا.. فإلى الحوار:

د. شكري مجاهد لكم رحلة ثرية في عالم الترجمة.. كيف بدأت وتشكلت؟

كانت البداية بترجمات غير منشورة في مجالات شتى كان يطلبها الباحثون في الإنسانيات. وقد أثمرت ألفة بافتراضات ومصطلحات لم يكن لمن تخصص في اللغة والأدب وحدهما أن يألفها بهذا القرب. بعدها كلفني د.جابر عصفور، وقد كان أحد الأساتذة الذين ناقشوني في الماجستير، بترجمة مقالات من أهمها مقال عن رواية ما بعد الحداثة، من كتاب شهير هو “شعرية ما بعد الحداثة” للمؤلفة ليندا هاتشون، وهي من كبار المنظِّرين لما بعد الحداثة. وكان جابر عصفور رحمة الله عليه نِعم المراجع ونعم الموجِّه بشأن تفاصيل كثيرة في الترجمة وفي عالم النشر ومعايير الدقة وغيرها.

بعدها، كنت أدرِّس الترجمة في الجامعة، فقررت أن أجعل مادة تدريس مقرر الترجمة للسنة النهائية  بقسم اللغة الإنجليزية، كتابًا بعنوان “الذوق الأدبي” للناقد والأديب الإنجليزي المعروف أرنولد بينيت؛ وكان ذلك أول ما نُشر لي من كتب، مع أن اسمي ظهر على الغلاف مشرفًا على المشروع ومراجِعًا!

كذلك، وقبل حصولي على الدكتوراه، تعاونت مع مشيخة الأزهر فيما كانت ترعاه من مشروع ترجمة كتب إسلامية مهمة للإنجليزية؛ فكان نصيبي كتابًا للدكتور يوسف القرضاوي، لكن الكتاب ظهر للأسف بترجمتي من غير اسمي، وكُتب عليه أنه من ترجمة لجنة ما.

التعرف على المسيري عن قرب من أسعد ما أتاحه لي عملي بالترجمة

أما أول كتاب كبير مهم، فهو كتاب “الوقائع الجديدة” لبِيتر دركر، وهو مؤسس علم الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كلفني به وراجعه د. مراد وهبة، وقد امتدح ترجمتي وفصَّل في أسباب مديحه، وقد أكسبني هذا ثقة وبصيرة عمقت علاقتي بعالم الترجمة. بعدها كلفني د.عبد الوهاب المسيري بمراجعة جزء من ترجمة موسوعة “إشكالية التحيّز” إلى الإنجليزية، ثم المشاركة في جزء العلوم الإنسانية بالترجمة المباشرة. وكان التعرف على د.عبد الوهاب المسيري عن قرب، من أسعد ما أتاحه لي عملي بالترجمة من خبرات.

ما أبرز ما تعتزون بترجمته؟

من بين الكتب التي ترجمتها، كتاب “نظرة الغرب للحجاب” وله أهمية ومعزة في نفسي؛ لأنه أول كتاب في موضوع إسلامي أنقله من الإنجليزية إلى العربية، وكان منهج الباحثة فيه لا يعتمد إلا على آليات البحث في الأكاديمية الغربية، مما يمكن وصفه بأنه بحث علماني بامتياز، لكنه يتجنب التحيز في أي اتجاه.

ثم يأتي كتاب “مسألة العربي في إنجلترا في العصور الوسطى”؛ لأنه أصعب ما ترجمت في حياتي، وكذلك “المرجع في العلمانية“، وكلاهما من إصدارات الشبكة العربية للأبحاث.

واقع الترجمة يحتاج إلى المزيد تنظيرًا وإنتاجًا وتجويدًا

وكتابان آخران أراهما شديدَيْ الأهمية هما “المشهد التاريخي، كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي”- على الرغم من أنه كتاب صغير- وكتاب “الدم في نقد المسيحية”، وأرى الأخير لم يأخذ ما يستحق من اهتمام، على أهميته وصعوبته نقله إلى العربية، وأخيرًا كتاب “فرقة العمّال المصرية”؛ لاسيما أن جدي رحمه الله كان من عمال هذه الفرقة وقضى زمنًا مع القوات البريطانية في فرنسا.

كتاب “فرقة العمّال المصرية” تأليف كايل أندرسون ترجمة شكري مجاهد ومحمد صلاح

كيف يتم اختيار الكتاب المترجَم.. هل بمبادرة ذاتية أم بطلب من دور النشر؟

الأشيع في عالم الترجمة أن تطلب دار النشر ترجمة كتاب بعينه، والأقل شيوعا أن يختار المترجِم؛ لأن الترجمة في عالم النشر لها ارتباطات ذات علاقة بتوزيع الكتاب واهتمامات الناس وهكذا. وهذا ينطبق عليّ وعلى غيري.

وقد اخترت بنفسي أكثر من كتاب للترجمة، لكن أغلب الكتب هي التي تختارني. ودور النشر تعلم، أو من المفترض أن تعلم، اهتماماتِ المترجمين والباحثين. وكان نصيبي في هذا نصيبًا كريمًا؛ فقد تعاملت معي دور النشر تعاملاً طيبًا، فحصلت على كتب مهمة كثيرة، في مجالات شتى.

لا شك في أن الترجمة لها دور في التفاعل الحضاري.. كيف ترصدون هذا الدور؟

الترجمة ليست ترفًا.. الترجمة ضرورة.. ولا تكاد تجد كتابًا صدر في أي موضوع، لا يشير إلى الترجمة، صراحةً أو ضمنًا؛ حتى إن “الترجمة” صارت مجازًا لأية عملية تحويل، فالآن صار يُترجَم الكلام إلى عمل! ومجازاتُ وَصْفِ الترجمة شاعت في كل المجالات!

في كل مرحلة من مراحل الحضارة، توسَّل أهل الحضارة بما توصَّل إليه غيرهم. وهذا التوسل لم يكن ليتم من غير الترجمة. فالترجمة ليست مسألة تفاعل حضاري وحسب، بل هي مسألة تواصل حياة بين الحضارات، على الرغم من تحفظي على جمع كلمة “حضارات”؛ لأني أؤمن  بأن الحضارة الإنسانية واحدة، لكنها تتم بأطوار تتعلق بالزمن وتتعلق الجغرافيا.. الحضارة الإنسانية واحدة، وينبغي أن يتعرف أهل كل مكان على ما لدى بني جلدتهم من منجزات.

أدعو إلى ترجمة المجلات العلمية بطبعات عربية متزامنة مع صدورها

وقد تبين ذلك من اهتمام الخلفاء المسلمين في عصور الازدهار بالحصول على المعرفة، وما كان الحصول على المعرفة ليتم بغير الترجمة. وما يشاع عن “دار الحكمة”، وما يشاع عن اهتمام المأمون وغيره بالترجمة؛ كله يشير إلى أن أصحاب المشروعات الحضارية لا ينظرون تحت أقدامهم فحسب، ولا ينظرون إلى من حولهم فحسب، بل يتطلعون إلى ما وراء الحدود. فما بالك والحضارة الإسلامية امتدت رقعتها إلى نصف الكرة الأرضية!

إذا نظرنا إلى واقع الترجمة في العالم العربي.. ماذا يمكن أن نلاحظ؟

من يتطلع إلى المزيد من الازدهار والتقدم لن يكتفي أبدا، .. لكن حركة الترجمة حاليًّا تشهد طفرة، وتشهد اهتمامًا كبيرًا لم يكن موجودًا من قبل. كانت الترجمة من قبل  في يد مؤسسات الدولة، وقليلاً ما كانت ترعاها دور النشر الخاصة. أما الآن فدور النشر الخاصة موجودة في حركة الترجمة، وألوانٌ مختلفة من المؤسسات موجودة، حتى صار لنا في مصر “المركز القومي للترجمة” بفضل جهود د. جابر عصفور رحمة الله عليه.

واقع الترجمة يحتاج إلى المزيد والمزيد؛ من حيث التنظير، والتدريس، وإنتاج الترجمة وتجويدها.. وإن كنا لا ننكر طبعًا أن واقع الترجمة الآن أفضل كثيرًا من مراحل سابقة.

كيف ننهض بواقع الترجمة في الفضاء العربي؟

النهوض بحركة الترجمة يحتاج جهودًا مؤسسية قومية وأهلية، لكن ينبغي أن يكون الاهتمام بالترجمة فعلاً وليس ردَّ فعل. بمعنى أن دور النشر لن ترضى بالخسارة، فهي تريد أن تنشر ما يحبه الناس، وهذا خير، وممكن أن تنشر شيئًا بجانبه شبيهًا بما يحبه الناس؛ لكن هذا لا يكفي، فالمفترض أن دور النشر أو المؤسسات القائمة على النشر والترجمة تُعلّم المجتمع وتقوده، ولا تكتفي بأن تبحث في السوق لترى: بِـمَ يهتم الناس؟ بل ينبغي أن تضع خطة تقوم على: ماذا يحتاج الناس؟

كنتاب المرجع في العلمانية ترجمة شكري مجاهد

وكان لي تجربة في “المركز القومي للترجمة” حين كنت رئيسًا له، فقد وضعتُ خطة لكن للأسف لم أستطع أن أكملها لأني تركت المركز بعد فترة قصيرة، وهي أنني أحببت أن أجعل خطة المركز تابعة لنوع من تقسيم العلوم، وليكن تقسيم “ديوي العشري”، فنبحث: أيّ العلوم ترجمنا؟ وأي العلوم نحتاج؟ كم كتابًا ترجمناه في كذا؟ وهل ترجمنا أمهات الكتب في العلوم الفلانية؟ وهل نتابع ما يَصدر من كتب؟ وليس الكتب فحسب، بل المجلات العلمية.. أرجو كثيرًا أن نتابع أهم المجلات العلمية ونتفق معها لإصدار طبعات عربية لها في وقت صدورها.

بالنسبة لتقنيات الترجمة.. كيف يقترب المترجم من اللغة الأصلية ويحافظ على روح النص؟

الحديث عن تقنيات الترجمة حديثٌ ذو شجون، وأحب أن أقول إن الترجمة ليست مجرد حرفة يتقنها كل الناس. أنا أقول دائمًا: الترجمة فن، ثم علم، ثم حرفة. “الناس كإبل مائة” كما في الحديث النبوي، ويمكن القول أيضًا: المترجمون كإبل مائة. يعني كل مائة تجد فيهم واحدًا أو اثنين وُهِبَا موهبة الترجمة.

التدريب والتوجيه المكثف أمرٌ مهم، لكن ينبغي أن يكون لدى  المترجم  حس لغوي دقيق وعميق، بالإضافة إلى الثقافة. وعملية الإعداد الثقافي شديدة الأهمية. والحس اللغوي والحساسية اللغوية، في المقام الأول.

الأشيع في عالم الترجمة أن تطلب دار النشر ما يترجم

أما تقنيات الترجمة فهي معروفة شائعة بين المتخصصين وندرب عليها الطلاب في الجامعة مع المفاهيم الأساسية  ومن أهمها مفهوم الأمانة في الترجمة، حيث نسأل: الأمانة والإخلاص لمن؟ بالطبع، للنص الأصلي، وقبله: للثقافة التي أنقل إليها.

ينبغي أن تخضع عملية الترجمة من أول الاختيار حتى النشر، للسؤال: ما مصلحة ثقافتي في نقل هذا الكتاب المترجم؟ وعلى أي نحو؟ بمعنى: إننا أقول ببساطة: المترجم الكفء المتمكن ينبغي أن يقوم بدور الوصي على نص؛ لأنّ في يده أمانة إصلاح ثقافته، إصلاح مجتمعه والنهوض به؛ فلا أترجم كل ما أجد. فإذا وجدت في كتابٍ ما يسيء إلى مجتمعي أو ما ينشر الفاحشة، فلا ينبغي أن أترجمه. وإذا وجدت ما يشوه اللغة أو الثقافة، فلا ينبغي أن أنقله.

كتاب المشهد التاريخي ترجمة شكري مجاهد

والترجمة ينبغي أن تكون خَلْقًا بعد خَلْق؛ أي أن الكتاب الأصلي مكتوب بلغة مقروءة سلسلة، وينبغي أن توازي الترجمةُ هذه اللغةَ الأصلية وتزيد عليها؛ توضيحًا وشروحًا وحواشي ومقدمة وهكذا.

وفيما يخص الدراسات الإسلامية.. ما أبرز ما تضيف المترجَمات؛ من حيث المنهج وارتياد موضوعات جديدة؟

أكاد أقول إن اللغة الإنجليزية صارت تنافس العربية في مجال الإسلاميات؛ فكثير من أهم ما يخرج إلى النور من كتابات وأبحاث في شؤون إسلامية وكتابات رصينة هي كتابات إنجليزية، لكن المعول على الاختيار والقراءة الناقدة، والحذر الشديد أثناء النقل.

المترجم ينبغي أن يكون عنده حس لغوي دقيق وعميق

وأرى أن كثيرًا من الكتاب المنتمين إلى الثقافة الإسلامية ويجيدون الإنجليزية وغيرها وعاشوا في البلاد الغربية، قد أسهموا في مجال تقدم الدراسات الإسلامية على نحو غير مسبوق، لكنني أريد أن يكون التعاون قائمًا دائمًا بين هؤلاء الأفراد ومؤسساتهم، وبين ما يوازيهم من أفراد ومؤسسات في العالم الإسلامي؛ حتى نتجنب زلات بل سقطات شديدة، يقع فيها بعض الذين يكتبون باللغات الأوروبية في موضوعات إسلامية وعربية؛ وقد أمسكت بيدي كثيرًا من هذه الزلات.

ولا تقتصر أهمية ما يُكتب في الأكاديميا الغربية على الموضوعات؛ بل تشمل المنهجيةَ وتفاصيلها، وأفق التوقعات والافتراضات، واختلاف المخاطَب.. كل هذه الأشياء تغيّر نوع الخطاب، وتسهم في إضافة رؤية لم تكن لتظهر لو كانت الكاتب عربيًّا يكتب بالعربية يخاطب عربًا.