من فنون الاستماع الفعال بين الزوجين التي تساعدهما على تجنب تدمير الأسرة إدراكهما بأنهما هما المستفيدان بشكل رئيسي من عدم التصعيد ومن حسن الاستماع إلى ما يقوله طرف للطرف الآخر، وحتى ننجح في ذلك يجب أن نضع أنفسنا مكان الطرف الآخر، ونجيب عن السؤال التالي بأمانة تامة: هل نعرف جيدًا كيف يفكر الطرف الآخر، على ضوء شخصيته وآرائه التي نعرفها، وليس كما نريد ونتمنى، وأيضا ليس كما نتصرف نحن؟

من الخطأ الشائع أن يضع كل إنسان نفسه وكأنه “النموذج” الذي يجب أن يسير عليه شركاء الحياة من حيث التفكير والانفعالات والتصرفات، ونتناسى أن لكل إنسان منا “الكتالوج” الخاص به والذي لا يتكرر إنسانيًّا كما أن لكل واحد منا بصمة إصبعه الخاصة؛ لذا لا بد من تفهم الاختلافات الإنسانية خاصة بين الأزواج، وأن نتعلم التسامح “الجميل” فيما بيننا، ولا نطلب من الطرف الآخر أن يكون صورة مكررة منا، بل علينا أن نسعى بجدية لتفهم حديثه من خلال تفهمنا لشخصيته وإدراكنا التام “لمشروعية” اختلافه في التفكير والتصرفات.

أهلا بنقاط الضوء!

ومن فنون الاستماع “الصبر” على الطرف الآخر حتى يشرح وجهة نظره كاملة والتحلي بالهدوء عند الرد، وعدم التسرع بإفراغ الشحنات الانفعالية وكأنها عبء يود الخلاص منه، بل تهدئة النفس وتذكيرها بأن هذا خلاف عابر سيمضي كما مضى غيره، وأن الحياة نفسها مؤقتة، ولا شيء يستحق تحويلها إلى عذابات متواصلة، وأنها أزمات يمكن تجاوزها بالصبر على سماع ما نكره، ورؤية نقاط الضوء وسط الظلام، وصنع خيط متصل يجمعنا ويقودنا للخروج من الخلاف بأقل خسائر ممكنة بدلاً من السماح للظلام بأن يسود الموقف ويحيل الزواج إلى جحيم.

وهذا يقتضي عدم تحدي الطرف الآخر وعدم السماح بالدخول في معارك معه سواء أكانت لفظية أو بدنية، وألا يستجوب أحدهما الآخر وكأنه في محاكمة عسكرية، بل يجب عليه إجادة إيصال رسائل ودية أثناء الاستماع مفادها أننا نحن الاثنين في سفينة واحدة ومصلحتنا مشتركة في أن تسير بأفضل وسيلة ممكنة، وحتى يحدث هذا لا بد أن نحرص على إزالة أي سوء تفاهم، وتفهم أي خلاف، وقتل العملاق وهو صغير؛ أي عدم السماح للنفس بالاستماع “الغاضب” الذي يسيء تفسير كل الكلمات ويحولها إلى محاولة لاغتيال الطرف الآخر معنويًّا أو السيطرة عليه وتجاهل حقوقه ومحاولة سلبها وامتهانه.. و.. و.. وغير ذلك من قائمة لا تنتهي باتهامات “تغوص” في السلبية سمعتها كثيرًا من أزواج وزوجات، وهذه الاتهامات ألقت بهم في نيران سوء التفسير لما يسمعونه، وقادتهم إلى زيجات تعسة كان الألم والمعاناة الرفيقان الدائمان فيها.

كما قد يلجأ طرف إلى ذكر ما يتضايق منه، فيقاطعه الآخر بذكر أشياء جميلة فعلها من أجله، فيظن الأول أنه يمنُّ عليه فيسيء إليه بدوره؛ لذا يجب على المستمع أن يتفهم الحالة النفسية السيئة لمن يتكلم، وألا يحاسبه على ما يقوله في لحظة ضيق، وأن يتجاوز ذلك ليصل إلى خلاصة ما يريد قوله، وألا يهتم بكل التفاصيل وأن “يؤجل” الرد عليها إلى وقت أكثر ملائمة، حيث تكون النفوس أكثر هدوءًا والأذهان في حالة أفضل من حيث الاسترخاء العقلي والقابلية للتفاهم، بل والتراجع أيضًا.

ومن هنا يجب حفظ كرامة الطرف الآخر وعدم التسرع بإبداء الزهو والاعتداد بالرأي؛ حتى لا يندم على تراجعه ويختار العناد.

مراقبة الحوار الداخلي

وحتى يفوز الزوجان باستماع جيد لا بد من التحرر من الحوار الداخلي السيئ الذي يقوله كل طرف عن الآخر، فإذا كانت الزوجة تردد لنفسها دائما: “زوجي لا يشعر بي، ولا يحترم أحاسيسي، أو لا يحبني”؛ فإنها تكون أقل استعدادًا للاستماع المحايد له، وكذلك الزوج إذا كان يقول لنفسه دائما: “زوجتي نكدية، أو لا تقدرني حق قدري”؛ فإن فرصة الاستماع الجيد لها تتضاءل بصورة كبيرة.

لذا لابد من طرد الحوار السلبي الداخلي أولاً فأولاً، وتذكر أن الطرف الآخر ليس أسوأ إنسان في الكون، وأن الزوج أو الزوجة ليس أفضل إنسان في الكون كله، والتركيز على الجزء الإيجابي في صفاته وإن قلَّت، وتهميش السلبيات، والتيقن من أن ذلك يصب في مصلحته ما دام يريد مواصلة الحياة.

*ومن فنون الاستماع الفعال بين الزوجين كذلك تقبل النقد الصادر من الشريك، وعدم التعامل معه وكأنه وسيلة للإهانة أو للانتقاص من القدر، وطرد ذلك واستبداله بأنه وسيلة “فعالة” للتقارب وللسعي إلى أفضل الطرق للوصول إلى النجاح في الزواج، وهو ما يعود بالخير على الطرفين معا، وتذكر أنه لا يوجد إنسان لا يخطئ، وأن الذكي هو الذي لا يتمسك بأخطائه بل يواجهها بشجاعة وثبات، ويوضح للطرف الآخر بأنه لم يكن يقصدها، تمامًا كما نفعل مع أصدقائنا المقربين، وهو ما يتجاهله كثير من الأزواج والزوجات؛ فبدلاً من الاعتراف بالخطأ إذ بالواحد منهم يقاطع الطرف الآخر ويرفض مواصلة الاستماع إليه.

*ومن فنون الاستماع الفعال بين الزوجين ملاحظة ميل الطرف الآخر إلى تصعيد اللهجة السلبية في الحوار والتنبه إلى ذلك، وعدم الخضوع إلى ميل النفس الطبيعي إلى الوقوع تحت الاستدراج والاندفاع نحو الرد العنيف وزيادة سوء الموقف، فالأفضل هو التحلي بالحكمة ونزع الفتيل قبل الاشتعال الذي سيصيب الجميع بالأذى وليس الطرف البادئ فقط.

*ومن فنون الاستماع الفعال بين الزوجين عدم مقاطعة الطرف الآخر ونبذ الصوت المرتفع، ودفع الطرف الآخر على حسن التعامل من خلال الإنصات الجيد إليه وإبداء الاحترام والتقدير.

ويجب أيضًا عند الاستماع والتركيز في كل ما يقال وليس فيما يؤيد الرؤية المسبقة لدى المستمع، مع محاولة إدراك وجهة نظر الطرف الآخر، ومحاولة جادة وأمينة لتفسير ما يحاول قوله بود وتفهم لوجهة نظره وعلى ضوء شخصيته.

ويجب عند الاستماع إلى ما نكره عدم إظهار أية رسائل توحي بالنفور أو الاحتقار أو العدوانية.

كما يجب الانتباه إلى ملامح من يتكلم، ومحاولة استيعاب غضبه، والاعتراف بحقه “المشروع” في الغضب لحدوث ما يسوءُه، والاستماع بصبر وود إليه وتوضيح وجهة النظر بهدوء.

نتائج الاستماع الجيد

فنون الاستماع الفعال بين الزوجين لكي يتقنها الزوجان لا بد من “تخيل” النتائج الرائعة التي تعود عليهما من إتقانها، وأن يتذكراها دائمًا ويعلما أن “المجهود” الذي يبذل في إتقان هذه الفنون سيجنبهما الكثير من المشاكل والأزمات، وأنه بمثابة “مهر” رخيص لسعادة غالية ولتفاهم يزداد؛ وهو ما يرشحهما للفوز بزواج ناجح يضاعف من قدرتهما على التمتع بحياة تتسع فيها مساحات راحة البال، والنجاة من منغصات الزواج التي تسلب أصحابها القدرة على التواصل الإيجابي مع متغيرات ضغوط الحياة، والتي تزايدت مؤخرًا؛ وهو ما يزيد من الرغبة في توسيع مساحات الراحة التي ينعم بها الزوجان في حياتهما الزوجية.

والآن وقبل أن ننتقل للتطبيق العملي، ما رأيكم في أن نستمد الطاقة التي تعيننا على التطبيق من سيرة المصطفي ، قدوتنا ومعلمنا، الذي علمنا: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.  

وأنا خيركم لأهلي

معًا نحاول أن نغوص في السيرة العطرة للحبيب المصطفى باحثين عن مواقف مختلفة من حياته الزوجية، المواقف ليست جديدة، ولكننا نحاول أن نقرأها سويًّا بشكل مختلف؛ حتى لا يكون لأحد منا حجة بانشغال أو هموم. فها هو الرسول القدوة يحاور، ويستمع، ويتواصل مع زوجاته، في إطار من الاحترام والتقدير؛ ليحققوا سويًّا مستويات غير مسبوقة من التوافق بين الأزواج.

تعلمنا في هذا الباب أن التواصل الفعال بين الزوجين يتضمن التعرف على احتياجات الشريك مع الحرص على تلبيتها، وهذه بعض مواقف حرص فيها الحبيب المصطفى على تفقد احتياجات زوجاته وتلبيتها:

1. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “دخل علي رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي ، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد، يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي ، وإما قال: تشتهين تنظرين؟، فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت، قال: حسبك ؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي.[رواه البخاري]

2. عن عائشة رضي الله عنها قالت: “خرجت مع رسول الله وأنا خفيفة اللحم فنزلنا منزلا فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقني فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر، وقد حملت اللحم فنزلنا منزلا فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك فسابقني فسبقني؛ فضرب بيده كتفي، وقال: هذه بتلك”.[رواه النسائي]

فالحبيب المصطفى يعلم أن السيدة عائشة صغيرة السن وأنها تحتاج للعب والترويح والترفيه، فيقدم لها ما تحتاجه بالصورة التي ترضيها وتناسبها، ولا تمنعه انشغالاته ومسئولياته الدعوية ومسئوليات الأمة من أن يتحرى مواطن احتياج زوجاته ليلبيها.

أما بالنسبة للاستماع الفعال والتعاطفي؛ فورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قولها: “جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن على ألا يكتمن شيئًا من أخبار أزواجهن”. فذكرت كل واحدة منهن ما ذكرت في زوجها في حديث طويل، وكانت الأخيرة هي أم زرع التي أوضحت أن زوجها أبو زرع قد أحسن لها في البداية ثم طلقها وتزوج غيرها.

استمع الرسول الكريم لحديث السيدة عائشة بقلبه، ثم رد عليها بقوله: “كنت لك كأبي زرع لأم زرع”[1] في الألفة والرما[2]، لا في الفرقة والخلا[3]، وكأنه أراد أن يبث الأمان في قلبها بأنه لن يتخلى عنها.