على الرغم من أنَّ التصوف الإسلاميَّ نمى ونشأ وترعرع في كنف الإسلام؛ إلا أنَّه تعرَّض كثيرا لحملات النقد والتشوية من قِبَل بعض الاتجاهات الدِّينية الـمُتشدِّدة حينًا، ومن قِبل أصحاب دعوات التمدُّن والـحداثة والتنوير حينا آخر.

ونتيجة لذلك؛ وقر في أذهان الكثيرين أنَّ أذواق الصوفية وأحوالهم ما هي إلا لونٌ من ألوان الهذيان ليس إلا! وأنَّ التصوف الإسلاميَّ مثَّل إحدى الانتكاسات الرَّجعية الكبرى في مسيرة الـحضارة الإسلامية!

ضمن هذا السِّياق، يُلخِّص الإمام عبد الـحليم محمود (1328- 1398هـ/1910 – 1978)، شيخ الـجامع الأزهر، مآخذ الـمنكرين على التصوف في أربعة مواضع:

أولها: أنَّ بعض الفقهاء يرونه دخيلا على الإسلام، إذ ليس في الإسلام إلا التَّقوى والورع، ونوعٌ من الزُّهد يُشْبِهُ أن يكون عِفَّةً أو قناعة.

ثانيها: أنَّ الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وإرادته موجودة في القرآن الكريم، ولا داعي لالتماسها في متاهات التصوف، فإنَّنا لا نأمن أن نضِلَّ في مجاهل الطريق.

ثالثها: أنَّ التصوف ليس في مُتناول الـجميع، فهو إذن (ارستوقراطية) تتنافى مع روح الإسلام (الدِّيمقراطية). ولأنَّ التصوف ليس في مُتناول الناس جميعا، فهو إذن تكليفٌ بما لا يُطاق، والله سبحانه لا يكلِّف نفسا إلا وُسعها.

رابعها: أنَّ التصوف ضعفٌ، والإسلام قوة، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾.[الأنفال: 60] والـجهاد باب من أبواب الإسلام لا يتلاءم مع قيام الليل وصوم النهار.

وأمَّا العقليون؛ فينتقدونه لاحتقاره العقل الذي هو هبة الله والوسيلة الوحيدة للوصول إلى اليقين في محيط ما وراء الطبيعة. وهم يبرهنون على وجود الله – عقليا – ويرون في براهينهم غناء ودقَّة، ويقينا ووضوحا لا لبس فيه.

ويردُّ الإمامُ بأنَّ طريق الصوفية هو البصيرة، الذي سبيله التزكِّي والتطهر، وأنَّ الـمعرفة الصوفية معرفةٌ إلهاميةٌ، ودليل صحَّتها – كما يقول الإمام محمَّد عبده (ت 1905م)- ظهور الأثر الصالح من الصوفية، وسلامة أعمالهم مما يخالف الشريعة، وطهارة فطرتهم مما يستنكره العقل الصحيح.

وبما أنَّ السبيل الوحيد إلى البصيرة هو “تزكية النفس” التي لا تتوفَّر إلا للصفوة الـمختارة؛ كان اعتراض الـخصوم على التصوف بأنه ارستوقراطي النَّزعة! وهو اعتراضٌ لا قيمة له؛ لأن التصوف في أرستقراطيته ينسجم مع طبيعة الأمور (الإقرار بوجود الاختلاف والتفاوت)، وإذا كانت الدِّيمقراطية معناها: التساوي في كلِّ شيء، فهي إذن أسطورة من الأساطير.

ولو أنَّ هؤلاء جميعا – النقليون والعقليون – التزموا حدود القصْد والاعتدال في أحكامهم، وأنعموا النَّظر في ما أُثر عن الـمتصوفة من أذواق وأحوال، وما خلَّفوه من آثار وأقوال، ودرسوا هذا كلَّه في ضوء الـمنهج العلميِّ الصحيح؛ لغيروا رأيهم ولوجدوا في مواجيد الصُّوفية وإشاراتهم وعباراتهم رموزًا لتعبيرات عن حياة روحية راقية، وحالات نفسية رائعة، ومذاهب فلسفيَّة منطوية على كثير من الـمبادئ والـمعاني ليست أقلّ قيمة من الـمذاهب الفلسفية الـخالصة الـمؤسَّسة على النَّظر العقليِّ والاستدلال الـمنطقيِّ، ولتبيَّنُوا أنَّ للعاطفة منطقا، كما أنَّ للعقل منطقا كذلك.

صحيحٌ أنَّ الطُّرُقية الصُّوفية قد لحقها العديد من التَّجاوزات الـخطيرة التي هي أبعد ما تكون عن جوهر التصوف الإسلاميِّ الـمنضبط بالكتاب والسُّنة؛ لكنَّ مظاهر الانحطاط التي صاحبت سيادة الطرُق الصوفية على البنية الثقافية الإسلاميَّة لا دخل للتصوف الـحقيقيِّ بها؛ فالبدع والـخرافات والرقص مجرد عوارض مُصاحبةٌ للجهل وليس للتصوف. كما أنَّ التصوف الـحقيقيَّ هو الـمبحث الأخلاقيُّ لفلسفة الـمسلمين، وهو مستمدٌ – بطبيعة الحال- من التعاليم القرآنية، وسنَّة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وزهد الصَّحابة والتَّابعين.

فالتصوف في الأساس هو عبارة عن تربيةٌ عمليةٌ للنفوس تقوم على غرس الفضائل، واقتلاع الرذائل، وقمع الشهوات. كما أنه تدريبٌ على الصبر والرضا والطاعات. وهو أيضا عبارة عن مجاهدة النفوس، ومكابدة نزعاتها، ومحاسبة دقيقة لها على أعمالها، وحفظٌ للقلوب عن طوارق الغَفَلات وهواجس الـخطرات، وانقطاعٌ عمَّا يعوق السالك في سَيْرِه إلى الله عزَّ وجلَّ، وزهادةٌ في كل ما يُلْهي عن ذكر الله تعالى ويَعْلَقُ بالقلوب سواه. إنَّه علمٌ وحِكمة، وتبصرةٌ وهداية، وتربيةٌ وتهذيب، وعلاجٌ ووقاية، وتقوى واستقامة، وصبرٌ وجهاد، وفرارٌ من فتنة الدُّنيا وزينتها وابتعا.

وطالما أكَّد الصوفية الأوائل على ارتباط تصوفهم بهذا الـمنزع التربويِّ التَّزكويِّ حين عمِدوا إلى تعريفه بأنّه:

“التصوف خلُق، فمن زاد عليك في الـخُلُق، فقد زاد عليك في الصفاء”؛ كما قال أبو بكر الكتَّاني الـمتوفَّى سنة 233هـ.

“ليس التصوف رسوما، علوما، ولكنه أخلاق. [لأنه] لو كان رسوما، كان يتأتّى بالـمجاهدة. ولو كان علوما، كان يُكتسب بالتعليم. لكنّه أخلاق فـ ((تخلّقوا بأخلاق الله)).[الألباني، شرح الطحاوية، رقم 120] والتخلُّق بأخلاق الله لا يتحقًّق بالرُّسوم، ولا بالعلوم”؛ كما قال “أمير القلوب” أبو الـحسين النوري الـمتوفَّى سنة 295هـ.

“التصوف: الدُّخول في كلِّ خُلُق سَنِيٍّ، والـخروجُ من كلِّ خُلُق دَنِيٍّ”؛ كما قال أبو محمد الـجريري الـمتوفَّى سنة 311هـ.

كما عمدوا إلى ربط التصوف بالأدب، والذي يمثّل في حقيقته – بحسب القُشيري- : “اجتماع جميع خصال الـخير”.  قيل للحسن البصري: “قد أكثر الناس في علم الأدب، فما أنفعها عاجلا وأوصلها آجلا؟ فقال: التّفقُّه في الدِّين، والزُّهد في الدُّنيا، والـمعرفة بما لله عزَّ وجلَّ عليك”.

فقد صاغ الصوفية آدابهم بطريقة اعتبروها نموذجا مُعبِّرا عن روح الإسلام، ومن ثمَّ طابقوا سعيهم التَّربويَّ وقواعد سلوكهم الـخاصة بصيغ تتجاوب فيها تعاليم الإسلام وقِيمه مع ثلاثية: العلم، والعمل، والـحال. فبواسطة الأدب الصُّوفي يتم تحويل القهر الصوفي للنفس، عبر الـمجاهدة، إلى معلم من معالم الإخلاص القلبي في العبادة والطَّاعة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ “حُسْنَ الأدب في الظَّاهر عنوانُ حُسْنِ الأدب في الباطن”، كما أشار إلى ذلك أبو حفص النَّيسابوري في سياق ردِّه على مقولة الـجُنَيد البغدادي: “لقد أدَّبْتَ أصحابَك أدبَ السَّلاطين!