إن دفاع الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وأموالهم وبكل ما أعطوا من قوة واسع لا يحاط به إلا على سبيل ضرب بعض أمثلة تدل على مظاهر حقيقة المحبة النابعة من صميم القلب، والمتمثلة آثارها في القول والعمل في الدفاع عن عرض رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم ومكانته بكل غال ونفيس، سواء كان في حياته أو بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، فمن أبرز قبسات في دفاع الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي:

شعار الصحابة القولي: “يا رسول اﷲ .. بأبي أنت وأمي”

كان حب الصحابة للنبي صلى اﷲ عليه وسلم حبا فوق الوصف، حب نبت من صـميم القلـب ويلـوح في أجـسادهم لمـا أيقنـوا أن الـسعادة والفـوز والمجـد والـشرف والنجاة في تحقيق هذه المحبة، وهم قوم جربوا جاهلية قبل الإسلام، وأدركوا البون بين الحياتين كما يبين النور من الظلمات، ولم تكن محبتهم للنـبي صلى اﷲ عليه وسلم تقال بألسنة مجردة، ومـا كانـت مقـولتهم الـشهيرة بيـنهم ” يـا رسـول اﷲ بـأبى أنـت وأمـي” إلا شاهدة على مـا في الضمائر، وتشير إلى أقصى استعدادهم في أية لحظة لفداء أنفسهم دفاعا عنه صلى اﷲ عليه وسلم.

وهذا عمر رضي اﷲ عنه يقول للرسول عليه الصلاة والسلام بدون مجاملة ولا نفاق: ” فأنت الآن وﷲ أحب إلي من نفسي”[1].

ويأتي رجل منهم تدفعه تلك المشاعر وهو لا يملـك نفـسه فيقـول للنـبي صـلى اﷲ عليه وسلم معبرا عن الحقيقة الدخيلة في نفسه: يا رسول اﷲ ! إنك لأحب إلي مـن نفسي، وإنك لأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية:{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين} [النساء: 69][2]

وهذه المحبة أعلى درجات المحبة – بعد محبة ﷲ تعالى-  وهي المحبة الكبرى، لأنها محبة اختياريـة إيثارية واجبـة، وليست ثانوية أو مخيرا فيها الإنسان، وإنما هي مقدمة على الأهواء والميول والطباع، ومقدمة على هلكة النفس والأهل والمال، لذلك ترتب عليها أعظـم الأجـر والجـزاء في الدنيا والآخرة، وإنها لخير الزاد لمن يريد أن يتزود، وجاء أعـرابي شاسـع الـدار إلى الرسـول صـلى اﷲ عليه وسلم فقال: يا رسـول اﷲ متى الـساعة؟ فقـال لـه رسـول اﷲ صـلى اﷲ عليـه وسـلم: “ما أعددت لها؟” قال:” حب اﷲ ورسوله، قال:” أنت مع من أحببت”[3].

وما أعظم أجر من حالـه هذه أن يحشر مع النبي صلى اﷲ عليه وسلم!! فلا ريب أن الـصحابة رضوان اﷲ عليهم هـم السابقون الأولون في تحقيـق هذه المحبة، لذا قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا بـه، ثم أعلـن أنـس رضـي اﷲ عنـه واقعه تجاه هـذه المحبـة الرائعة، فقال في آخر الحديث:” فأنا أحب رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.[4]                  

ولما قيل للنبي صلى اﷲ عليه وسلم: لو أتيت عبد اﷲ بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى ﷲ عليه وسلم وركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه – وهي أرض سـبخة – فلمـا أتـاه النـبي صلى اﷲ عليه وسلم فقال له ابن أبي بن سلول المنافق: إليك عني واﷲ لقد آذاني نتن حمارك، فما يكاد ينتهى من هذا الكلام حتى رد عليه رجل من الأنصار فورا فقال: واﷲ لحمار رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم أطيب ريحـا منـك.[5] 

وإن هذا الموقـف من المواقف المشرفة الذى يترجم لنـا معنى محبة النبي صلى اﷲ عليه وسلم المطلوب، وهذا الصحابي الجليل مدني، وابـن أبي بـن سـلول مدني بل مـن سادات أهـل المدينـة، ومـع ذلـك لا تمنـع الـصحابي حميـة قومية أن يـذب عـن مقام النـبي صـلى اﷲ عليه وسلم.             

أفعال الصحابة المطابقة لأقوالهم

ما وصلتنا من أخبار فداء الصحابة رضي اﷲ عـنهم وحرصهم الشديدة على النبي صلى الله عليه وسلم بطـرق متـواترة، لولا ذلك لكنا نعد تلك الأخبار ضربا من الخيال والأساطير لا حقيقة لها، لكنها أخبار مسجلة في كتاب اﷲ عز وجل ومسطورة في أصح الكتب الحديثيـة وغيرهـا مما لا يدع أدنى شك في تصديقها، فإن اﷲ تعالى “نظر في قلـوب العبـاد بعـد قلـب محمـد صـلى اﷲ عليه وسلم فوجد قلوب أصـحابه خـير قلـوب العبـاد فجعلهـم وزراء نبيـه يقـاتلون علـى دينـه.[6]

وصحبوه صلى اﷲ عليه وسلم في السراء والـضراء، وشمروا سواعدهم عن ساق الجادة في سبيل الدفاع عنه صلى اﷲ عليه وسلم، فآثروه على المال والولد، فقالوا له: “هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك[7]”.

وقد تعـددت الـصور والوقـائع الـتي تعـبر عـن مـدى تفـانيهم ودفـاعهم عـن النـبي صـلى اﷲ عليه وسلم في حياته، ومن تلكم: 

1 – التسليم التام لأمره عليه الصلاة والسلام دون تردد 

من صور إيثار الصحابة رضوان اﷲ عليهم تعظيم مكانة الرسـول صـلى اﷲ عليـه وسـلم وأمره: هو التنازل عن حقهم الخـاص حبا وسمعا وطاعة له عليه الصلاة والسلام، كما حصل لكعب بن مالك أنه يتقاضى ابن أبي حـدرد دينا له عليه في عهد رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم في المسجد، فارتفعـت أصـواتهما حـتى سمع رسـول اﷲ صـلى اﷲ عليـه وسـلم من داخل بيته، وكشف سجف حجرته ونادى  كعب بن مالك: يا كعب، قال: لبيك يا رسول اﷲ، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول اﷲ”[8].

وتكرر مثل هذا أيضا معه في قصة تخلفه عن غزوة تبـوك، وهـي قـصة مملـوءة بفوائـد جمـة ومن ذلك مـا قاله كعب رضي اﷲ عنه أنه لما مضت أربعون ليلة من الخمسين:”إذا رسـول رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها.[9]  

فقوله” أطلقها أم ماذا أفعل؟” دلالة واضحة لسرعة الاستجابة لأمر رسـول اﷲ صـلى اﷲ عليـه وسلم ولو أمره بطلاقها ما تردد في التلبية، مع كونه في وقت الذى ضاقت عليه الأرض بـما رحبت إلا أنـه أدرك أن في الاتباع والتسليم نجاة وفلاح لا غير.  

وهكذا ديدن الصحابة في جميع الأوامر والنواهي الصادرة عن رسول اﷲ عليه وسلم، إذ الطاعة والامتثال من لوازم المحبة ومقتضياتها وثمراتها. 

2- الاستئذان في رد الفعل عنه صلى اﷲ عليه وسلم 

الغيرة الدينية والحمية الشريفة هي المحركة الأساسية الدافعة بالصحابة إلى الذب عن أي طعن موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعـل عمـر بـن الخطـاب رضـي اﷲ عنـه أشـهرهم في هذا الباب، وكم من حادث وموقف نراه يقول:” دعني أضرب عنقه” غيرة وغـضبا لله تعـالى ولرسوله صلى اﷲ عليه وسـلم، فيكفـه عنـه صـلى اﷲ عليـه وسـلم ثم يبـين لـه العلـة، وقد قال عمـر رضي اﷲ عنه مرة في شأن ابن أبي بن سلول” دعني أضرب عنق هذا المنافق ” ومنعه عليه الصلاة والسلام معللا سبب المنـع فقـال: أتريـد أن يقـول النـاس إن محمـداً يقتـل أصـحابه ؟!”[10]

3 – الاستعداد الكامل لفداء أنفسهم من أجله عليه الصلاة والسلام 

وكم سجل لنا صحيح التاريخ من أخبار سعي القوم – رجالهم ونسائهم- وتنافسهم في تـضحية الأرواح والأموال والأهل من أجل الدفاع عـن الرسـول صـلى اﷲ عليـه وسـلم، وكان أبو بكر الصديق رضي اﷲ عنه، وأهل بيته خير القدوة في سبق نصرة النـبي صـلى اﷲ عليـه وسـلم والذب عنـه وخاصة في مكة، ساعة العسر، حيث رؤوس الكفـرة آذوا الرسول عليه الصلاة والسلام إيذاءا شديدا في غير مرة، وقام أبو بكر دونه بالدفاع عنه وتخليصه منهم ثم يصيح بهم:” أتقتلون رجلا أن يقول ربي اﷲ .[11]

وكذا في قصة هجرته مع النبي صلى اﷲ عليه وسلم وإنه وأهله جاهدوا بأنفسهم في سبيل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في خطة خروجه من مكة إلى المدينة؛ مع رجحان احتمال تعرضهم لكـل أنـواع الأذى والأخطـار، ولا يطمأن أبو أبكر على رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم إلا بعد وصولهما المدينة، وقد عبر عن بعض ذلك المشهد سراقة بـن مالك حين قال:” وأبو بكر يكثر الالتفات” يعني أثناء الهجرة إلى المدينة خوفـا وذبـا عـن النـبي صـلى اﷲ عليه وسلم، إلى حد أنه رأى الـشمس قد أصابته – حينما قدما المدينة ولم يعرفه أهلها- أقبل أبو بكر حتى ظلل عليه صلى اﷲ عليه وسلم بردائه فعرفه الناس.

وكذا للصحابة تضحيات رائعة لم يعرف لها التاريخ نظيرا في غزوة أحد، كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو، “ويشرف النبي صلى اﷲ عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سـهام القـوم ،نَحْري دون نحرك!!![12] 

ولم يكن ذاك الحب والدفاع خاصا بالكبار فقط، حتى الصبيان ينتصرون للنبي صلى اﷲ عليه وسلم ويغـارون عليـه، ولمـا سمـع معـاذ ومعـوذ ابنـا عفـراء تطـاول أبي جهـل وسـبه للنـبي صـلى اﷲ عليه وسلم نذرا أنفسهما بالانتقام منه والقضاء عليه، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي اﷲ عنه: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال: يـا عـم هـل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قـال: أخـبرت أنـه يـسب رسـول اﷲ صلى اﷲ عليـه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.[13] هكذا انتقم أطفال الصحابة ممن يسبّ رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم غيرة وغضبا لله تعالى ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. 

4 – ترك مداهنة ذوي القرابة في مقابل عرض النبي صلى اﷲ عليه وسلم 

لم يجامـل عبـد اﷲ رضـي اﷲ عنـه والده عبـد اﷲ بـن أبي بـن سلول رئـيس المنـافقين لمـا تكلم في رسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم: ” واﷲ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منهـا الأذل “..فوصل الخبر إلى ولده عبد اﷲ، وذهب إلى أبيه المنافق قائلا: واﷲ لا تنفلت حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول اﷲ صلى اﷲ عليه وسلم العزيز!! ففعل[14]

هكذا صورة محبة الرسول عليه الصلاة والسلام والولاء والبراء مترجمة عملية من الضمائر في واقع الحياة، أطاعوه وآثروه على كل شيء حبا وتدينا.

وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: “كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ[15].


[1] رواه البخاري في صحيحه, ص: ١١٤٦ برقم(٦٦٣٢)  

[2]  رواه الطبراني في معجم الأوسط وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٦ / ١٠٤٤ 

[3] رواه البخاري (٣٦٨٨)

[4] المصدر السابق (٣٦٨٨)

[5] رواه البخاري (٢٦٩١) 

[6] مسند الإمام أحمد ٢/١٧

[7] ينظر في مسلم مختصرا (1739)

[8] رواه البخاري (٢٧١٠)  

[9] المصدر السابق. (٤٤١٨)

[10] رواه البخاري (٤٩٠٥)

[11] رواه البخاري (٣٦٧٨)

[12] المصدر السابق. (٣٨١١)

[13] رواه البخاري (٣١٤١) 

[14] رواه الترمذي. (٣٣١٥) قال حديث حسن صحيح.

[15] الشفاء  2/568