مما لا شك فيه أن مواقف الغربيين من الفن الإسلامي وتقويمهم له، يتضمن الكثير من التقصير وسوء الفهم المتعمد حيناً، غير أن ذلك- على أى الأحوال- يلقى مزيداً من الأضواء على المسألة، ويفتح أمام الدارسين آفاقاً جديدة.

وروم لاندو مؤلف كتاب (والإسلام والعرب) (1)، واحد من هؤلاء وهو يخصص الفصل الأخير من الكتاب للحديث عن الفنون الإسلامية، ويستطيع المرء أن يجد في بعض استنتاجاته مادة طيبة عن هذه الفنون. وهو يبدأ بطرح المقولة المعروفة من أن الفن الإسلامي لم ينجب عباقرة في فنّي الرسم والنحت من مثل فيدياس أو رامبرانت أو ميكال انجبيلو أو رافاييل.. ولا هو اعطى العالم لوحات فنية كبيرة أو تماثيل خالدة!! بل انه في الغرب أقل شهرة من الفنون الشرقية الأخرى: الصينية واليابانية والهندية. لكن روم لاندو ما يلبث أن يحذر من الاستنتاج الذي قد يتبادر إلى الأذهان من هذا المنطلق، ويصف بالسطحية كل من يتعجل رأياً كهذا.. وهكذا (( فقد لا يكون ضعف الإسلام الظاهري إلا ظاهرة من ظواهر القوة )) (2).

وتلك هي مسألة مهمة في تاريخ الفن الإسلامي، فإن الضوابط والمعايير التي ألزم بها الإسلام ادباءه وفنانيه اقتضتهم التخلى عن بعض صيغ التعبير وهجر عدد من الممارسات الفنية التي نهي عنها الإسلام، فكان ذلك حائلًا بين الفنان وبين التعبير بهذا الأسلوب. الأمر الذي فتح له مجالات أخرى لم يسبقه إليها أحد، فشهد عالم الإسلام مهرجانا خصباً من معطيات فن ينبثق عن رؤيةٍ عقيديٍة متميزة، يلتزم بمفرداتها ومطالبها ويبدع ويتفوق فى إطارها المحمود الذى لا تشوبه شائبة تمس عقيدته. إن عبارة لاندو آنفة الذكر لتلمس بذكاء طبيعة المشكلة، فتتجاوز قشور الظواهر إلى الجوهر.

 وهذا يذكرنا بحقيقة  أخرى فإن الأمة المتحضرة ذات القدرة على الفعل تجد في الضوابط والتحديات، من مثل تلك التي ألمحنا إليها قبل قليل، فرصة لشق قنوات جديدة.. للابداع في مجالات بكر لم تكن قد خطرت على بال.. ان الطاقة لتبحث عن متنفسها.. عن فرصتها للتحقق، ولقد كان الفنان المسلم أهلاً لهذا، ومن ثم فان غياب فنون كالنحت والرسم ليدلّ-  بالمقابل – على حضور فاعل فى مجالات أخرى كالخط والزخرفة والمعمار وهو ظاهرة قوة ولا ريب.

وروم لاندو يدرك تماماً لماذا اختفى الرسم والنحت من تاريخ الإسلام المبكر، أو تضاءل إلى حدّ كبير قياساً إلى تراث الأمم والشعوب الأخرى.. إن المسألة – كما يعبر عنها روم لاندو – ليست راجعة بالضرورة إلى قصور خاص أو إلى ضعف فى ( الحكمة ) عند العرب. عند العرب. والواقع أن علينا أن نعزو ذلك إلى وصية دينية تحرم الفن التمثيلي. فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يزدري الفن التشبيهي. عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين الوثنيين من العرب حرم نحت التماثيل أو أي ضرب من ضروب الصور )) (3).

إن هذه مسألة معروفة تماماً بالنسبة للمسلم، ولكن الغربي طالما دار حولها ولم يحاول أن يضع يده على أساسها الواضح العميق في الوقت نفسه أن روم لاندو لا يكتفي بذلك فقط ولكنه يوحي للقارئ بأنه مقتنع، أو مقدّر على الأقل، للدافع الكبير وراء ضمور واختفاء هذين الفنّين! وهو يدرك جيداً- كذلك – أن الفنان المسلم لم يشعر- لحظة – بالاحباط وانه بدلاّ من ذلك نشط من أجل البحث عن صيغ تعبيرية أكثر انسجاماً مع روح العقيدة التي ينتمي إليها، فمن حيث (( حرم على المسلمين الاهتمام بالفن التشبيهي، فقد تعيّن على مواهبهم الفنية أن تلتمس منافذ لها في اتجاهات أخرى. ومن خلال هذا السعي أحدثوا فناً يستطيع أن يدعي- بصرف النظر عن محاسنه أو نقائصه الأخرى – أنه واحد من    ( اصفى ) الفنون التي نعرفها )) (4)

ماهي خصائص هذا الفن ومقوّماته الأساسية؟

النصّ التالي يقدّم لنا الجواب وبمقدور المرء أن يستخلص منه ثلاثاً أو أربعاً من هذه الخصائص والمقومات: التجريد الجمالي الخالص، رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقيدي، تجاوز الطبقية، والانتشار الجغرافي (( أنه يعتمد تماماً على عناصر الفن البصري الحقيقية، وهي العناصر الجمالية الخالصة. الفن الإسلامي لايعنيه أن يروي قصّة أو يلقن موعظة، أو ينافس الخالق الأوحد في محاولة إنشاء (الكائنات ) !!

إن اهتمامه مقصور على تناول الخطوط والأشكال والألوان تناولًا غنياً. ومن طريق استقصائه إمكانيات هذه العمليات نشأت مأثرته المميزة أكثر ما يكون التمييز: فن الزخرفة العربي The Arab esque  وهو تعبير جمالي شديد التركيز وجدّ منطقي عن الروح الفنية. ولقد أفاد الفنان المسلم من ( فن الزخرفة العربي ) لتزيين أشياء الحياة اليومية كلها تقريباً.. انه لم يبق لغة الفنانين الخصوصية، كشأنه في الفن التجريدي الحديث بخاصة أو ملكاً لذوي الخبرة أو للاثرياء. لقد جمل الحياة اليومية لكل طبقة من الطبقات الاجتماعية. ولقد خلع فن الزخرفة العربي طابعه المميز على الفن الإسلامي في أسبانيا كما خلعه على الفن الإسلامي في الهند، وصقلية، والقسطنطينية وفي شبه جزيرة العرب وآسيا الصغرى. وحيثما واجهتك استطعت أن تتّبينه في الحال وتعرفه بسيماه )) (5).

وبما أن فناً كهذا يتحرك بحرية في دائرة عالم متوحد هو عالم الإسلام، فإنه لم يجد نفسه أسير أمة  أو شعب أو بيئة أو فئة من الناس.. انه فن المسلمين في كل مكان.. فن عالمهم المترامي بين المشارق والمغارب، المنطوي على عشرات الجماعات والأقوام والشعوب (( ففي تاريخ جد مبكر اكتسب الفن الإسلامى صفة دولية أكثر منها قومية. فليس من الضروري أن تكون خبيراً لكي تتبين لأول وهلة أن اللوحة التي سمتها ريشة فراغونار (Fragonard  1732- 1806 ) هي فرنسية، وان اللوحة التي رسمتها ريشة تيتيان (Titian 1477- 1576 ) هي إيطالية، وان اللوحة التي رسمتها ريشة كونستايل (Constable  1776- 1837 )  هى انكليزية. ولكن عليك أن تكون خبيراً لكي تستطيع أن تقول ما إذا كان ( فن الزخرفة العربي ) الذي تجده في مبنى بعينه أو تحفة خزفية الطرز المستقلة- وبخاصة في فن العمارة – نشأت في فارس ومصر والمغرب وتركية، فإن العناصر المشتركة في ما بينها رجحت سماتها المميزة. وقد غزز هذا التراث المشترك وأغني بتبادل موصول ومتعدد الجوانب بين مختلف البلدان الإسلامية ))(6).

وبصمات الإسلام ورؤيته للكون والعالم تمتد في مجال الفن لكي تشمل التكوين المعماري نفسه، انطلاقاً من المسجد الذي هو البدء والمنتهى، والذي اكتسب ملامحه الأساسية من طبيعة وظيفته التي أريد له أن يؤديها (( ومما لا شك فيه أن حافزاً لا إرادياً نحو دمج السماوات دمجاً رمزياً في بيت العبادة هو الذي قاد المسلمين إلى تبنّي القبة وإلى اتقانها حتى الكمال. وفي امكاننا القول أن المكعب والقبة معاً يمثلان رمزاً كاملاً لماهية الإسلام: وحدة العالمْين المنظور وغير المنظور، عالميْ الأرض والسماء ))(7).

وصحيح أن المعماريين المسلمين تأثروا بالنماذج الرومانية والفارسية والبيزنطية (( ومع ذلك فقد وقفوا دائما إلى إبداع آثار لا ريب فى سمتها الإسلامية الخالصة (8) )).

إن روم لاندو يردّ المقولة الغربية الخاطئة التي شدّ ما رمت الفن الإسلامي بالاقتباس الأعمى عن الحضارات السابقة.. وهو لا ينفى هذا الاقتباس للخبرات الفنية، لكنه يضعه موضعه الحق، هنالك حيث تكون عملية الأخذ عن الغير- وهي أمر محتوم بالنسبة لكل حضارة ناشطة- مجرد خطوة أولى يكون بعدها الانتقاء واعادة الصياغة والابداع وتوظيف الاقتباسات لخدمة أغراض العقيدة الجديدة والتصوّر المتميز.. لقد (( كان من دأب الأمويين والعباسيين جميعاً أن يستقدموا الأجانب من المهندسين المعماريين والصناع، الذين تربوا على العقائد الرومانية أو البيزنطية، ولكن العرب وقفوا في غير ما استثناء إلى اشعار أولئك المعماريين بروح دينهم الخاص، وهكذا ابداعو- مفيدين أحسن الافادة من عوالم مختلفة- آثاراً إسلامية خالصة وليست رومانية أو بيزنطية. وها هنا، كما في كثير من مجالات الحضارة الإسلامية الغربية عاملة ناشطة، وهي عبقرية عرفت كيف تمتص عناصر منبثقة من أشد الينابيع تنافراً لكي تدمجها فى تركيب

 the SYNthesis جديد متجانس)) (9).

أكثر من هذا، أن معماريي عالم الإسلام، عادوا لكي يعطوا هم اللآخرين وذلك هو القانون الآخر من قوانين التفاعل الحضاري. فإن الحضارة الناشطة، كما تأخذ عن الغير وتعيد تركيبه على طريقتها الخاصة، فإنها تمنح الغير كذلك، بعض خصوصياتها ومعطياتها المتميزة. فالمئذنة- مثلاً- (( هي التي أصبحت- فيما بعد- نموذجاً يحتذى في تشييد برج الأجراس النصراني، وبرج جيرالدا في اشبيلية، وهو واحد من أروع أبراج الكنائس في العالم المسيحي، إنما بناه فى الأصل حكام مراكش الموحدون ليكون مئذنة لا يخطءه المرء في بعض أبراج الكنائس الأوربية الشهيرة كبرج بالاتزو فيتشييو Palazzo Vecchio في فلونسة وبرج ديل كرمون Torre del Commune  في فيرونا. ونحن نجد صدى من أصداء المئذنة حتى في الأبراج الأنيقة التي شيدها المعماري السير كرستوفر دين Wren  في بعض كنائس لندن )) (10).

 وقد ابتكر المسلمون وحدات معمارية أخرى، غير المئذنة، أو طوروها، ثم قدموها للغير. ولا ندو يسهب فى الحديث عنها وضرب الأمثلة عليها، ولكين يكفي هنا أن نشير إلى بعضها من مثل (( الزمر المتعاقبة من الحجارة السوداء أو الحمراء والبيضاء )) في الزخرفة المعمارية و(( الأقواس المسننة )) و (( الأبراج المزدانة بالزخارف المتشابكة Traceried  )) و (( النقوش الخطية لزخرفة االمباني )).. إلى آخره. ويخص لاندو إلى القول (( بأن قبة الصخرة، وحمراء غرناطة، ومساجد مصر وفارس وتركية التي لا تحصى، هي شواهد باقية على الهام فني ليس ادنى من الالهام الذي أحى بالأكروبوليس والكاتدرائيات بأية حال )) (11).

وهو لا يغفل إبداعية الخط العربي والمساحة الواسعة التي غطاها في الحياة الفنية الإسلامية بتعاشقه مع فن الزخرفة العربي (( ذلك النظم المعقد للاشكال الهندسية والعناصر النباتية المكيفة وفقاً لطراز بعينه والخطوط العربية، النظم الذي انتهى إى أن يصبح بمثابة ( دمغة المصوغات ) بالنسبة إلى الفنىالإسلامى والذي شغل خيراً هائلَا من العبقرية الفنية فى الإسلام(12) )).

 ويوغل لاندو في استلهام الشحنات الفنية التي يمتلكها الحرف العربي والتي اهّلته لكي يلعب ذلك الدور الواسع (( فالسمة الزخرفية القوية التي تغلب على حروف الأبجدية العربية  ( المنظومة فى كلمات ) تتيح فرصة رائعة للوفاء بأغراض ( فن الزخرفة العربي ). والواقع أن هذا الخط يشكل واحداً من خصائص هذا الفن، ليس هذا فحسب بل إن (( الحب والبراعة الجليين اللذين كثيراً مارسمت بهما هذه الحروف أو نقشت إنما يظهران عمق الشعور الذى باشر به المسلم عموماً والفنان بشكل خاص مهمة إخراج كلمة الله فى صورتها المنظورة. فهذه النقوش هى فى العادة ذات صفة دينية. إن الكلمة؛ أو Logos  سواء فى الإسلام أو فى إنجيل يوحنا، أو فى الفلسفة المسحية المتأخرة، قد اعتبرات قوة الله الفاعلة المبدعة، وقد كانت قوة الله المحببة التى نفخت الحياة فى ما كان من قبل عدماً(13) )).

وهو يستنتج أن (( العنصرين اللذين يشكلان المحتوى الرئيسي لفن الزخرفة العربي- النمط والكلمة، الشكل والمعنى- يفيدان على التعاقب مبدأ الحقيقة المادية ومبدأ الحياة، وبكلمة أخرى مبدأ الوجود كما يراه الله.. وهكذا يصبح هذا الفن رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه ))(14).

شئ آخر يريد روم لاندو أن يقوله وهو يتحدث عن فن الزخرفة والخط.. ذلك الايقاع المتوحد في حضارة الإسلام بين الفنان والمفكر والعالم.. ذلك العشق للتناغم والتناسق. وذلك العشق للتناغم والتناسق. وذلك الولوع بالنظام (( أن الفنان المسلم شارك المفكر والعالم المسلميْن ولوعهما بالنظام والجدولة Tabulation والتناغم. فقد التمس الفلاسفة كما نعلم تفسيرات عقلانية لخلق الله الكون، ولم تكن قلوبهم لتطمئن إلا إذا اظهرت تفسيراتهم منطق التناغم الكامل. أما الرياضيون وعلماء الفلك فالتمسوا أكمل شكل من أشكال التناغم، أعني المعادلة الرياضية، وبطريقة مماثلة اهتم الفنان المسلم بتنسيق التصماميم والأنماط التي كانت صفتها الهندسية الطاغية تساعد بصورة رائعة على ( النظم ) التناغم )) (15).

ولم تكن لذة الابداع مقصورة على الفنان المسلم وحدة، بل كان يشاركه في ذلك ((كثير من المسلمين في اهتمامهم بتصميم الزخارف العربية حتى ولو عدموا براعته)) فالتطلعات الروحية للمبدع والمتلقي واحدة، والأخير يستطيع أن يرى في هذه الأعمال بوضوح ((المنطق والجمال اللذين ينبثقان عادة كلما حاول امرؤ مخلص أن يترجم روح دينه وحضارته الأشد عمقاً وابغالاً في الباطن وينقلها إلى صورتها المنظورة )) (16)

لكن هذا لا يعني، كما يرى روم لاندو، أن ((الجمال المنظور)) هو المثل الأعلى الإسلامي، كما هو الحال لدى الأغريق.. فهناك ما هو أشمل وأبعد وأعلى بكثير: (( الله في كماله )) (( يعني الله- سبحانه – فى جميع الأشياء المختلفة الدالة على عظمته وقدرته وإبداعه مثل النجوم والسماوات والأرض والطبيعة كلها ))(17).

هذا البعد الحركي في مكان خلق الله وزمانه.. هذا التمخض الدائم لإرادة الله.. هذا التدفق الابداعي لابداعيته، هو الذي يتحتم على الفنان المسلم المعاصر أن يتشبث به، أن يتأمله طويلاً، وأن يستمد منه، كما استمدّ الأجداد، الكثير من القيم والتعاليم. هنا- مثلاً – في مجال الفن حيث لا يكون للمنظور الساكن وحده الحكم الفصل، وحيث تتفتح أمام وعي الفنان لهذا المبدأ الخطير آفاق شاسعة، وتمتد ازاءه أرضية واعدة بالعطاء.

 إن الأخذ عن الغرب الحديث غير جائز، بل هو كضرورة للكون والحياة والإنسان يعتبر أمراً مرفوضاً، مادام أن الفنان المسلم يمتلك- ابتداء – رؤيته المتميزة، وجذوره الموغلة، وخصوصيته الغنية بالانجاز والعطاء.. ان هذا الانصهار أو التلاشي هو نوع من الانتحار ارداعي إذا جازت التسمية.. نوع من التفريط فى الذات والرؤية والتاريخ، والارتماء بسهولة في أحضان (( الغرباء ))، وهو موقف لا يرتاح إليه حتى هؤلاء الغرباء أنفسهم الذين يتطلعون لمن يقدم لهم شيئاً جديداً أصيلاً.. شيئاً من معطايتهم المتميزة وليس تكراراً منسوخاً عما أبدعوه هم.. وإن المرء ليلمس ( نبرة ) قريبة من هذه في ختام كتاب لاندو، يتحتم علينا جميعاً أن نتعلم منها.. أن الفنانين المسلمين  ((.. من باكستان ومصر ومراكش يرسمون اليوم لوحاتهم الزيتية في أسلوب (غربي ) ، والنحاتون المسلمون ينتجون اليوم تماثيل نصفية، وتماثيل نسوة عاريات وما إليها. والمتمتعون منهم بمواهب حسنة تشرّبوا المزاج الغربي في سهولة ويسر وابداعوا بعض الأعمال الممتازة. ومع ذلك فإن هذه الأعمال قليلة الشأن إذا ما قورنت بالآثار التي أبداعها خير زملائهم الغربيين ))(18).

 ليس فنانو الإسلام المعاصرون جميعاً، إذا أردنا الحق، ولكن معظمهم اختاروا هذا الطريق، فلا همْ ابدعوا شيئاً متميزاً، ولا هم كسبوا اعجاب أساتذتهم الغربيين وتقديرهم. وبدلاً من ذلك من التأصيل، ليس في التاريخ أو في إبداع الأسلاف، ولكن في الرؤية الإسلامية التي يمكنها أن تمنح كل عصر فنّها المأمول. ومن أجل ألّا يتوهم أحد أن روم لاندو يدعو إلى (( اجترار الأنماط الفنية للفنية للأسلاف )) فإنه ينادي بالتجديد ويرى فى نزوع الفنانين المسلمين (( إلى الأخذ بأشكال التعبير الجديدة )) برهاناً على حيويتهم. ذلك أن تبادل الخبرات بين الشرق والغرب، أو بين الحضارات بشكل أكثر شمولاً، انما هو أمر محتوم ليس في مجال الفن وحده بل في كل مجال.. انما يتحتم أن يمضي هذا التبادل بصيغ مشروطة من التريّث والتمعن والانتقاء والهضم والتمثل، من أجل حماية الشخصية الثقافية من الذوبان والتلاشي أو بعبارة أكثر اثارة: منعها من الانتحار.

ومن عجب أن مفكراً غريباً يحاول أن يعلمنا هذا، بينما نجد حشوداً من المسلمين أنفسهم تحاول أن تتجاهل هذه ( الحقيقة ) وأن تسوق نفسها بالفعل إلى الدمار! إنها- كما يسميها الرجل- (( لحظة الأثر الأول وموسم التجربة ))، وهي لحظة متوقعة كلما التقت حضارتان تحاول احداهما أن تحتوي الأخرى.. ولكن الهزة العنيفة يجب ألّا تفقدنا التوازن وأن نظل متشبثين بوعينا الكامل إزاء التحدي، وأن يكون هناك صميم التبادل وكما يقول روم لاندو (( النبذ، والقبول المشروط، والتكامل )) وهذا لن يتأتى بسرعة (( لأن عملية التوفيق بين المفاهيم والتقنيات الجديدة وبين الفكرات والبراعات الموروثة لابد أن تكون عملية طويلة الأمد(19) )).

وعلى ذلك فإنه ليس ثمة سوى اثنتين: التلاشي الثقافي وانعدام الوزن، أو التحصّن بالذات من خلال التزام صارم وصادق وعميق برؤانا وقناعاتنا العقيدية.. هنالك حيث يتحقق الحضور الحق في ساحات العالم المعاصر.. حيث يمكن أن نعطي هذا العالم شيئاً جديداً متميزاً أصيلاً.. وحيث – وهذا هو الأمل المرتحبى – نكون في مجال الفن والأدب، كما يتحّتم أن نكون في سائر المجالات (( شاهدين )) على العصر كما أراد لنا الله ورسوله أن نكون..

أ.د. عماد الدين خليل


الهوامش :

(1) ترجمة منير البعلبكي، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت – 1977.

(2) الإسلام والعرب ص 315.

(3) نفسه ص 316.

(4) نفسه ص 316.

(5) نفسه ص 316- 317 وانظر الصفحات 326- 329.

(6) نفسه ص 317- 318.

(7) نفسه ص 322- 323.

(8) نفسه ص 323- 324.

(10) نفسه ص 325.

(11) نفسه ص 326.

(12) نفسه ص 328.

(13) نفسه ص 330- 331.

(14) نفسه ص 331.

(15) نفسه ص 332.

(16) نفسه ص 332.

(17) انظر الصفحات 249-251 من المرجع السابق.

(18) نفسه ص 348- 349.

(19) نفسه ص 349.