كان الإمام جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي من أؤلئك القلائل العظماء الذين بارك الله تعالى في تراثهم وعلمهم مع قلة التأليف، وكم من أناس صنفوا تصانيف كثيرة، ولكن لم يكتب الله لها الدوام والاستمرار للحكمة وربما لنيات أصحابها أيضا، “كان – الإمام أحمد- رضى الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامه، ويشتد عليه جدا، فعلم الله حسن نيته وقصده فكُتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سِفرا، ورويت فتاويه ومسائله وحُدث بها قرنا بعد قرن” [1]

ألم تر كيف جعل الله تعالى قبول لكتابي التهذيب والتحقة بين أهل العلم عامتهم وخاصتهم، وحظيا منهم بالاهتمام الخاص، حيث يرتعون في ظلالهما ويستضيئون بنورهما تأصيلا وبحثا ومباحثة، ولا تكاد تخلو كتب علوم السنة من التحكيم إليهما والنهل منهما والاعتماد عليهما والوصية بهما، وهذا فيما يبدو من علامة القبول وبركة العمر والعلم.

يقول عنهما ابن عبد الهادي: “صنف كتاب تهذيب الكمال.. وكتاب الأطراف، وأوضح في هذين الكتابين مشكلات لم يسبق إليها”، وقال ابن طولون: ومن المعلوم أن المحدّثين بعده عيال على هذين الكتابين.[2] وفيما يلى إشارة سريعة إلى منزلة الكتابين بين عالم الكتب الدينية.

أولا: كتاب تهذيب الكمال

كان مصطلح الكتب الخمسة مصطلحا معهودا عند أهل العلم قديما، ولما ألف أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي كتابه ” أطراف الكتب السنة” وكتابه ” شروط الأئمة الستة” أصبح مصطلح الكتب الستة علما على “صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجامع التِّرْمِذِيّ، وسنن النَّسَائي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة القزويني”، وكان ابن طاهر أول من أضاف سنن ابن ماجه نظرا لكثرة زوائده وأبوابه الفقهية وإن كان أضعفها من حيث الصحة.

وهذه الكتب الستة بمجملها تمثل أمات كتب السنة النبوية في الدرجة الأولى، لما فيها من انتقاء الأحاديث وشمولها على أبواب الدين كله.

وجاء الحافظ أبو القاسم ابن عساكر وألف في شيوخ أصحاب الكتب الستة فحسب، في كتاب أسماه” “المعجم المشتمل على ذكر أسماء شيوخ الأئمة النبل”، ثم جاء بعده الحافظ عبد الغني المقدسي ووضع كتابه “الكمال في أسماء الرجال”، وحاول فيه قدر الاستطاعة دراسة رجال الكتب الستة كلهم، بدءا بالصحابة حتى شيوخ أصحاب الستة، ولذا يعتبر أول من طرق باب التأليف في رجال الكتب الستة، وإن كان ابن عساكر أول من ألف في شيوخ أصحابها.

سبب تأليف الكتاب

قد أبان المؤلف في المقدمة عن السبب الدافع لوضع الكتاب، وأنه بعد امعان النظر وإجالة الفكر في كتاب “الكمال في أسماء الرجال” رآه كتابا نفيسا في بابه، وكثير الفائدة في محتواه، إلا أنه يشوبه شائبة من الاغلاق والاخلال والنقائص بسبب عدم استقصاء الأسماء التي استملت عليها الكتب الستة حق الاستقصاء، وعدم تتبع المؤلف لجميع تراجم الأسماء التي ذكرها في كتابه تتبعا شافيا، فقال الإمام المزي:” فلما وقفت على ذلك، أردت تهذيب الكتاب وإصلاح ما وقع فيه من الوهم والاغفال، واستدراك ما حصل فيه من النقص والاخلال، فتتبعت الأسماء التي حصل إغفالها منهما جميعا، فإذا هي أسماء كثيرة تزيد على مئات عديدة من أسماء الرجال والنساء” ومن هنا تحركت همة الإمام لاستدراك وإصلاح الكتاب ومكث في ذلك ما يناهز ثمانية أعوام على حد قول الدكتور بشار عواد معروف محقق الكتاب، وسماه: “تهذيب الكمال” وهو اسم على المسمى.

 قيمة كتاب التهذيب

يقصد بالتهذيب في أصل اللغة العربية: التنقية، والتحرير، والتصويب، والتليخص أيضا، وبالنظر إلى واقع كتاب التهذيب، فإن المؤلف قد نظمه في سلك فكرة كتاب الكمال إلا أنه ابتكر نظما آخرا تماما، بطرافة الأسلوب وحسن الترتيب ليصبح كتابه كتابا آخرا مستقلا، بكبر الحجم وغزيرة العلم وموسوعية المعارف.

هذا، وقد أبرز الدكتور بشار بين يدى مقدمة الكتاب عنوانا كبيرا في تفضيل التهذيب على الكمال، حرر فيه الجوانب والمزايا التى تفضل بها التهذيب على الكمال، سواء من حيث المحتوى والهيكل العام والمصادر حتى صار الكتاب ثلاثة أضعاف الكمال، ينصح الرجوع إلى ما أوضحه الدكتور هناك من عجائب ابداعات الإمام المزي في هذا الكنز المبارك.

يقول علاء الدين مغلطاي الحنفي عن التهذيب: كتاب عظيم الفوائد، جم الفرائد، لم يصنف في نوعه مثله..لان مؤلفه أبدع فيما وضع، ونهج للناس منهجا لم يشرع”. وقال في موضع آخر: وقد صار كتاب التهذيب حكما بين طائفتي المحدثين والفقهاء إذا اختلفوا قالوا: بيننا وبينكم كتاب المزي.[3]

فروع التهذيب الشهيرة

نظرا لما حواه كتاب التهذيب من جمع نقولات أهل العلم في الرواة جرحا وتعديلا مع حسن استثمارها في التراجم، وهذا الذى جعل العلماء يعكفون عليه ويتهافتون على مطالعته فينة وأخرى كي ينشأوا من خلاله المشاريع العلمية حتى تفرعت عنه فروع متنوعة، ومن أشهر تلك شيوعا ما قام به الجبلان الإمام الذهبي والحافظ ابن حجر من الخدمة الكثيرة في تهذيب الكتاب وتنقيته والتى تعد تتمة الجمال للكتاب وخاصة في غصون الكتب الخمسة الآتية:

  1. تذهيب التهذيب للإمام الذهبي، وقام الخزرجي الأنصاري بتلخيصه بكتابه المعروف”خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال.
  2. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للإمام الذهبي.
  3. تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، اختصر فيه”تهذيب الكمال”إلى نحو الثلث.
  4. تقريب التهذيب. للحافظ ابن حجر، اقتصر فيه على اسم المترجم مختصرا ودرجة توثيقه وطبقته والعلامات التي ذكرها له المزي، وقيد بعض الأسماء والانساب والكنى بالحروف.[4]

وفي مقدمة كتاب التهذيب قدم الإمام المزي نصيحة مهمة لكل مطلع الكتاب ينصحه أن يتحلى ببعض أساسيات العلم قبل النظر فيه حتى يستفيد ويفيد فيسعد، فقال رحمه:” وينبغي للناظر في كتابنا هذا أن يكون قد حصل طرفا صالحا من علم العربية: نحوها ولغتها وتصريفها، ومن علم الاصول والفروع، ومن علم الحديث، والتواريخ، وأيام الناس، فإنه إذا كان كذلك، كثر انتفاعه به، وتمكن من معرفة صحيح الحديث وضعيفه، وذلك خصوصية المحدث التي من نالها، وقام بشرائطها ساد أهل زمانه في هذا العلم، وحشر يوم القيامة تحت اللؤاء المحمدي إن شاء الله تعالى.

ثانيا: كتاب تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف

عرفت كتب الأطراف كنوع من أنواع التأليف العتيق عند أهل العلم بالحديث، وهي الكتب التى يرد فيها جزء أو طرف من الحديث ليدلل على تتمته سندا ومتنا، وكان لهذه الكتب أهمية بارزة كبرى في تسهيل معرفة طرق الحديث، ومظانها، وحصر مرويات الرواة، واختلاف ألفاظها وغيرها، وقد تختص الأطراف بكتاب معين أو بكتب.

وكان كتاب “تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف” من أجل كتب الأطراف مكانة، وأبين نفعا، وأكمل فائدة، وأسهل تناولا، وأقرب وصولا ووقوفا على مواضع البحث دون التكلف الكبير.

أوضع فيه المؤلف أطراف الكتب الستة العظام وما يشاكلها من المسانيد والمراسل، ورتبها على حروف المعجم، قال في المقدمة: فإني عزمت على أن أجمع في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى أطراف الكتب الستة التي هي عمدة أهل الإسلام وعليها مدار عامة الأحكام… وما يجري مجراها”

وجميع أحاديث الكتب الستة مسندها ومرسلها وعددها (19595) حديثاً مع المكرر إلى (1395) مسنداً، منها: (995) منسوباً إلى الصحابة رجالاً ونساء رضوان الله عليهم. والباقى من المراسيل وعددها (450) حديثاً منسوباً إلى أئمة التابعين، ومن بعدهم، ومن هذا التقسيم يعرف عدد الأحاديث المروية عن كل صحابى في هذه الكتب، على حد قول الشيخ محمد مطر الزهرني رحمه الله[5]

ويقول الإمام عن بداية ونهاية هذا المصنف:” وكان الشروع فيه يوم عاشوراء سنة ست وتسعين وستمائة، وخُتم في الثالث من ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة” وهذا يعني أنه قد مكث في تحريره ستا وعشرين عاما، هي حقبة علمية سعيدة زاهرة، في التحري والتثبت والعناية التامة بالتنقيح، وهكذا الأيام تحفظ للأئمة أعمالهم على الاستمرار بعد مماتهم.

منهجه في التخريج

انتهج المؤلف في تخريجه للحديث نهجا قويما، وذلك أنه “يبدأ كل رواية بلفظة حديث بخط كبير واضح كما في المطبوعة، ثم يكتب رموز من أخرج هذا الحديث فوق لفظة حديث كما في المخطوط، أو قبلها كما في المطبوعة، ومن هذه الرموز: “خ” للبخاري، “م” لمسلم، “د” لأبي داود، “ت” للترمذي، “س” للنسائي، “ق” لابن ماجه القزويني، “خت” للبخارى تعليقاً، “خد” للبخاري في الأدب المفرد، “عخ” خلق أفعال العباد للبخارى، “مد” المراسيل لأبى داود، “قد” كتاب القدر لأبى داود، “تم” الشمائل للترمذي، “سي” عمل اليوم والليلة للنسائى. إلى آخره.

وقاعدته – رحمه الله – في سياق مرويات كل صحابي؛ أنه يقدم من حديثه ما كثر عدد مخرجيه على ما قل عددهم فيه، ولا ينظر إلى موضوع الحديث أو لفظه، فما رواه الستة من حديثه مقدم على ما رواه الخمسة وهكذا، ثم بعد قوله: حديث يورد طرفاً من الحديث بقدر ما يكون دالاً على بقيته، وهذا الطرف تارة يكون من قوله ، وتارة من قول الصحابي إن كان حديثا فعلياً، أو بالإضافة أحياناً كقوله: حديث العرنيين.”[6]

مصادر الكتاب

بنى الحافظ المزى كتابه على تجارب وخبرات الأوائل المصنفين في الأطراف، واستفاد منها واستدرك على مواقع الخلل والزلل فيها وتجنبها، ثم هذبها وصفاها وقومها، كما أشار إلى ذلك بقوله:” فإني عزمت على أن أجمع في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى أطراف الكتب الستة… معتمداً في عامة ذلك على كتاب أبي مسعود الدمشقي وكتاب خلف الواسطي في أحاديث الصحيحين وعلى كتاب ابن عساكر في كتب السنن ثم قال:” ورتبته على نحو ترتيب كتاب أبى القاسم, فإنه أحسن الكل ترتيباً، وأضفت إلى ذلك بعض ما وقع لي من الزيادات التي أغفلوها، أو أغفلها بعضهم، أو لم يقع له من الأحاديث، ومن الكلام عليها. وأصلحت ما عثرت عليه في ذلك من وهم أو غلط”

مكانة كتاب تحفة الأشراف

تبوأ كتاب التحفة من عهد الؤلف المكانة السامية وموضع التقدير والتبجيل حتى يوم الناس هذا، حيث لم يتوقف العلماء في الثناء عليه والتنويه به، بل أصبح قطب الرحى في فن الأطراف وعلم التخريج والأسانيد والتحقيق، فكم من مؤلف بعده في مدحه وتنقيحه وتهذيبه، حتى قال الحافظ ابن حجر في وصفه:” “إن من الكتب الجليلة المصنفة في علوم الحديث كتاب تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف تأليف شيخ شيوخنا الحافظ أبي الحجاج: يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي، وقد حصل الانتفاع به شرقا وغربا، وتنافس العلماء في تحصيله بعدا وقربا”[7]

وقال الفيروزابادي شيخ الحافظ:” وأما تحفة الأشراف لمعرفة الأطراف للحافظ الكبير الشيخ جمال الدين فإنه كتاب معدوم النظير مفعم الغدير يشهد لمؤلفه على اطلاع كثير ‌وحفظ ‌بتير”[8]

وكتاب التهذيب مفتاح أساسي لرجال الكتب الستة، وكتاب التحفة معين قوي لمعرفة مواضع متون الكتب السنة في أسرع الوقت، وقد قرب الكتابان السنة النبوية بين يدى الأمة في معرفة ما ثبت منها دون غيرها.