اندهشت كما اندهش من قبلي من فكر و موسوعية علي عزت بيغوفيتش وأنا أقرأ له كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، وزادت دهشتي أكثر بإجرائي إحصاء جمعت فيه أعلام الفن الذين اعتمدهم – إما قارئا لأعمالهم أو مستدلا بها أو مارا عليهم مرور كرام- وذلك قبل انطلاقي باحثا عن رؤيته للفن معتمدا بشكل كبير في كتابه المذكور آنفا على الفصل الثالث منه والمعنون ب”ظاهرة الفن” .
أيقنت أن قيمة الكتابة في أي موضوع إنما بقيمة معرفة الكاتب وتعمقه في المجال الذي يكتب فيه،ولذلك أكبرت في علي عزت بيغوفيتش سعة اطلاعه بمجال الفن قبل الخوض في الحديث فيه، وهذا ما سيتجلى للقارئ الكريم عند اطلاعه على معجم الأعلام (قائمة بأسماء الفنانين الذين ذكروا في فصل:ظاهر الفن).
في القرآن الكريم حديث عن قصة إبراهيم عليه السلام إذ يتجاوز فتنة الليل بكوكبها الساطع ونور قمرها البازغ وفتنة النهار بشمسها الباهرة الكبرى إلى الله فاطر السماوات والأرض جميعا !(1)
وفيه كذلك أن ما جعل الله على الأرض من زينة هو لابتلاء الناس أيهم أحسن عملا !(2)
إن الفن ما وجد إلا ليصنع الجمال، وما وجد الجمال في الإسلام إلا ليستتبع التكليف ويدعو إلى بلوغ حقيقة الله سبحانه، يقول الله عز وجل : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } (3)، { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } (4)، { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله،بل هم قوم يعدلون } (5)
يذكر علي عزت بيغوفيتش ناقلا “إن الفن ابن الدين، وإذا أراد الفن أن يبقى حيا، فعليه أن يستقي دائما من المصدر الذي جاء منه”(6) وبعد حديث مطول في فصل كامل خصصه في كتابه:” الإسلام بين الشرق والغرب” لقضية الفن يختم بالقول:”إن الفن،في بحثه عما هو إنساني،أصبح باحثا عن الله”.(7)
يمكن أن نؤكد– إلى جانب ما سبق- أن الدين والفن متلازمين ، ذلك أن عملية التأثر والتأثير مصاحبة للعمل الفني وللنفس المتلقية له، فإذا كان (بيكاسو) كما تحدث عنه علي عزت بيغوفيتش يقول:”إنه عندما ينظر إلى لوحات(سيزان)يعجب من الحماس والوجد الذي كان يغمر(سيزان)وهو يقوم برسم هذه اللوحات..”. ويضيف (بيكاسو):”ليس المهم ما عمله الرسام،وإنما الأهم الرسام نفسه من هو”(8) فإنه في موضع آخر ينقل لنا كيف أن العمل الفني يحدث أثرا عجيبا على المتلقي، يقول:” أثناء عرض مسرحية “الملك لير”وصفها(بيتر بروك) بأنها: جبل لا يمكن الوصول إلى قمته أو هزيمته أبدا !”.(9)
بل إن عملية التأثر هذه تبلغ درجة أكبر إذا ما علمنا عن صلة الفن بالمعابد، يذكر علي عزت أن فن المعمار – في جميع الثقافات- بلغ أعظم إلهاماته في بناء المعابد،وينطبق هذا حسب قوله-على حد سواء –على المعابد في الهند القديمة و كامبوديا، كما ينطبق على المساجد في أنحاء العالم الإسلامي، وعلى المعابد التي وجدت في غابات أمريكا قبل وصول (كولومبوس)، وكذا كنائس القرن العشرين في أنحاء أوروبا وأمريكا .ولا أحد من كبار البنائين والمعماريين اليوم يمكن أن يقاوم هذا التحدي ! ثم يمضي بيغوفيتش يستعرض أسماء كثير من كبار الفنانين الذين صمموا كنائس ومعابد في أماكن مختلفة من العالم قبل أن يختم حديثه بقوله”وهكذا،فإن الفن المعماري – رغم أنه أكثر الفنون وظيفية وأقلها روحية –يثبت لنا صفته الدينية من خلال البناء الذي لا يتوقف لأماكن العبادة.
إن الفن يرُد دينه للدين بوضوح أكثر خلال الرسم والنحت والموسيقى،فتكاد الأعمال الفنية الكبرى لعصر النهضة تقتصر في تناولها على الموضوعات الدينية بدون استثناء.وقد وجدت هذه الأعمال ترحيبا أبويا في الكنائس بجميع أنحاء أوروبا. فهل توجد كنيسة في إيطاليا أو هولندا لا تعتبر متحفا فنيا في الوقت نفسه؟”.(10)
إننا حين نتتبع التعاريف التي أوردها علي عزت بيغوفيتش لمفهوم الفن نخلص إلى استنتاج واحد هو صلته بالدين، ف (جياكومتي) حين عرف الفن بأنه:”البحث عن المستحيل” (11) و (جون كاسو) حين رآه “نشوء جديد على الدوام” (12) و حتى (كاميللي براين) حين تحدث عن الرسم وقال:” في الرسم غياب كامل للكلام،فهو عالم مرئي خاص يرضي فيه الإنسان ذاته،إنه عالم قائم بذاته،حالة ميتافيزيقية لا يستطيع الناقد شرحها لأنه يعتمد على اللغة” ، في كل هذا نجد أنفسنا أمام تعاريف هي أشبه بحديث عن غائية الفن لا ماهيته، فكأن الأسئلة الوجودية التي يجيب عنها الدين تظهر مرة أخرى في العمل الفني ! وكأن مصدر الفن هو أسئلة الوجود التي هو من قبيل :لماذا هناك حياة وموت،وجود وعدم وغير ذلك مما يحاول الفنان إيصاله من خلال عمله الفني؟ !
يقول علي عزت بيغوفيتش:” لا بد لنا من التنبيه على أنه لا وجود لأعمال فنية مفهومة كل الفهم”فالعمل الفني مسألة جوانية..سر..مسألة إيمانية”، والجهر به لا يكون مفهوما من جانب الآخرين إلا بطريقة جزئية.يقول(شيريكو) – وهو احد رواد فن الرسم الإيطاليين،وهو مؤسس ما يعرف باسم الرسم الميتافيزيقي- يقول:”إنسان واحد هو الذي يستطيع أن يفهم لوحاتي،هو أنا”” .(13)
فكأننا إذا أمام أعمال يحصل أن تجد جواب الدين عنها لو سئل فيها قول الله تعالى:”وخلق الإنسان ضعيفا” ! أو قول رسوله: “استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك” !أو العبارة لطالما تكررت عند كبار العلماء في تصانيفهم:”هذا أمر يجده الإنسان في نفسه!
ويظهر الأمر بوضوح أكثر كما يقول بيغوفيتش في العجز الحاصل عن الارتفاع إلى مستوى الفن – حتى وان ساد معتقد مفاده أن”الفن الواقعي”اقرب إلى الإنسان- والأمر راجع لكون”جوهر الأعمال الفنية غامض غموض المعتقدات القلبية وغموض الحس الداخلي بالحرية”ويضيف :” باءت جميع المحاولات لتعريف جوهر الفن تعريفا عقليا بالفشل،كما فشلت محاولات تعريف الحياة” .(14)
نخلص مما سبق إلى مدى ترابط ما هو فني بما هو ديني وهذا ما يبدي لنا بوضوح – كما يقول بيغوفيتش- الخاصية المقدسة للرموز،حتى إن أحد الكتاب قال معلقا على ذلك:”إن عصرنا هو عصر نمو رموز الأفكار والمشاعر المقدسة”..وليس هذا اتجاها جديدا ولا مؤقتا، إنما هو حالة دائمة تنبع من صميم طبيعة الفن.فالفن،إذا استبعدنا منه الغثاء،مقدس وفوق – عقلي”.(15)
(1) انظر قول الله عز وجل:”فلماجن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي،فلما أفل قال لا أحب الآفلين،فلما رأى القمر بازغا قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين،فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر،فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون،إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين”سورة الأنعام الآيات 75،76،77،78،79.
(2) أنظر قول الله عز وجل:”إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا”سورة الكهف الآية7.
(3) سورة الصافات الآية 6.
(4) سورة الأنعام من الآية 99.
(5) سورة النمل الآية 60.
(6) henri bergson :creative evolution
(7) الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيغوفيتش،دار الشروق الطبعة التاسعة،الصفحة: 174
(8) نفسه،الصفحة: 169
(9) نفسه،الصفحة: 148
(10) نفسه،الصفحة: 152
(11) نفسه،الصفحة: 143
(12) نفسه،الصفحة: 146
(13) نفسه،الصفحة: 170-171
(14) نفسه،الصفحة: 148
(15) نفسه،الصفحة: 153