قال تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأیۡت ٱلناس یدۡخلون فی دین ٱلله أفۡواجࣰا * فسبحۡ بحمۡد ربك وٱسۡتغۡفرۡهۚ إنهۥ كان توابۢا } (سورة النصر :1-3)

ذكر البيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي، عن صدقة بن يسار عن ابن عمر، قال أنزلت هذه السورة { إذا جاء نصر الله والفتح} على رسول الله في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، واجتمع الناس فقال: ” يا أيها الناس “، ثم ذكر الحديث في خطبته.

وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في:  { إذا جاء نصر الله والفتح } السورة؟

قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره، فقال لابن عباس ما تقول أنت؟ قال: هو أجل رسول الله ، أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم، وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه – سبحانه – لن يعلق الاستغفار بعمله، بل علقه بما يحدثه هو – سبحانه – من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار، فعلم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه.

التسبيح والاستغفار

ويدل عليه أيضا قوله: { فسبح بحمد ربك واستغفره } وهو كان يسبح بحمده دائما.

فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها، ويدل عليه أيضا أنه – سبحانه – شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال، فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل.

وكان النبي إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول “اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين” فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها.

والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به.

وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } [الأحقاف: 15] مع قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة: 233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر.

وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وأسقط الإخوة بالجد، وقد أرشد النبي عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا، فقال: يكفيك آية الصيف.

وإنما أشكل على عمر قوله: { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } [النساء: 176]

فدله النبي على ما يبين له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف، فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس، ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد، وإن علا.

قال ابن القيم في المدارج : الفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه.

فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عد ألف بواحد، فانظر إلى فهم ابن عباس وقد سأله عمر، ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة { إذا جاء نصر الله والفتح }

وما خص به ابن عباس من فهمه منها أنها نعي الله سبحانه نبيه إلى نفسه وإعلامه بحضور أجله، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا، وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره، ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.

فائدة

وقال في سورة أجل رسول الله التي هي آخر سورة أنزلت { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ” أن رسول الله ما صلى صلاة بعد إذ أنزلت عليه هذه السورة إلا قال في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن.

فالتوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته، وما ينبغي له، قال تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا – ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } (الأحزاب: 72-73) فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة.